Nombre total de pages vues

مقالات سوسيولوجية

                                                      

ذ: محمد مالكي   :مادة الفلسفة.                                                                  

العنف الرمزي :أبعاده وتجلياته

        إن إعادة التفكير في ظاهرة العنف اليوم ليس من باب الترف الفكري أو ضربا من ضروب البلاغة، بل العودة العنيفة للعنف في المجتمعات  لأنها لازالت تؤمن بقدوم ذلك الشخص البطل و الكاريزمي، أو تمني النفس بانبلاج المهدي المنتظر ليخلصها مما هي فيه من ضيق و أزمات، فضلا عن  ذلك فإن كل تفكير في ظاهرة العنف هو تفكير في صميم و عمق الحياة الإنسانية أو بالأحرى في تجل من تجليات السلوك الإنساني، فالمطلوب هو اعتبار العنف ظاهرة إنسانية بامتياز ، إن لم نقل ظاهرة ثقافية                                     .                                                             
         في المقابل، لابد من القطع مع التمثل السائد بكون العنف غريبا عن الإنسان و دخيلا عليه،   و الحال أن العنف جزء لا يتجزأ عن الإنسان، لكن يبدو أنه تم نسيان هذه الحقيقة و تعويضها بقيم التسامح و الخير...التي اكتسبت صفة المرغوبية بفرط السعي إليها أي أن الإنسان نسي ما هو عليه و عوضه بما يريد ان يكون عليه. و لعل حضور القوانين و النواميس ليس إلا تأكيدا لوعي واع أو لاواع بكون العنف ميزة تنضاف إلى الإنسان فإذا كان هذا الكائن يستعصى على كل تحديد يروم الإمساك بماهيته فيعرف أنه الكائن المدني أو الاجتماعي إذ يميل إلى الإجتماع بطبعه كما يوصف بالكائن السياسي أي الذي ينزع إلى تسييس وجوده و ينعته الخطاب الديني بالكائن العابد أو المتدين بمعنى الكائن الذي يحذوه نزوع نحو المقدس فيمكن وسمه أيضا بالكائن العنيف الذي يتأصل فيه العنف و يعتبر إمكانا من بين إمكانياته الممكنة.صحيح أن العنف هو انكشاف للجانب الغاضب و المكبوت في الإنسان، غير أن الإنسان حين يلجأ إلى العنف فبغية إبراز وجوده         و الارتقاء بكينونته أي يستعمل العنف ليتخذ مسافة ممكنة عن العنف لهذا نقترح تسمية عنف الإنسان بالعنف المتعالي عن العنف.و ما يجعلنا نطمئن لهذا التحديد و لو مؤقتا   أي كون الإنسان كائنا يتجذر فيه العنف هو أن الممارسة السياسية في عمقها ما هي إلا صراع مع الجانب العنيف في الإنسان ليس لاحتوائه و إنما لاستئصاله و اجتثاثه من جذوره رغم أنه تم الاقتناع أخيرا أن هذا المسعى يبدو مستحيلا و لقد كان لهذه الحقيقة التي مفادها،أنه يمكن تأجيل العنف و ليس القضاء عليه، أثر كبير في صياغة الإشكال من جديد و الذي أصبح على الشكل التالي : كيف سيتم تصريف و إعلاء عنف الشعوب بشكل لا يستفز الشعب و لا يمس مصالح المستفيدين ، من الامتيازات التي يمنحها المجال السياسي لهم على حساب عموم أفراد الشعب؟                      
        صحيح أنه لا يوجد مجال سياسي يمكنه إشباع جميع رغبات أفراد الشعب لكن يبدو أن الديمقراطية كشعار تتبجح الدولة- باعتبارها مجموعة من الأجهزة و المؤسسات التي تمارس السلطة في بلد ما- بكونها تؤسس لها يقتضي منها و من الممارسة السياسية مراعاة عموم أفراد الشعب بتوعيتهم و تأهيلهم للمشاركة اليقظة في تدبير الشأن العام فحين نطالب بالمساواة مثلا فمعناه أن تكون لأفراد الشعب القدرة على التفكير و المساءلة الأصيلة للسياسي و السياسة، إن المحرار الذي يقاس به رقي أي شعب من الشعوب هو ما يملكه أفراده من وعي و نضج فكري   و الحال أن نمو الوعي لدى أفراد المجتمع يحتاج إلى وقت طويل جدا لكي يكتمل أو يقترب من الإكتمال خاصة في مجتمعات لا يمكن نعتها إلا بمجتمعات تعيش على درجة الصفر على مستوى الوعي، مجتمعات يغلب على تفكيرها طابع الجاهز والإندفاع و التطرف و الدوغمائية و ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة. إجمالا خطاب المجتمع اليوم هو خطاب مليئ بالعواطف و ذو شحنات سيكولوجية.                                                                                                      
      هكذا إذا فإن التفكير في ظاهرة العنف اليوم يستوجب اعتبارها ظاهرة اجتماعية تقتضي تحليلها في عمقها و ليس التعامل معها كسلوك سيكولوجي شاذ ينم عن حياة وضعتنا في محل لا محل له من...؟                                                                                                   

        بعد هذا التشخيص المقتضب لإشكالية العنف في مجتمعات كمجتمعنا الذي يحتاج إلى تغييرات راديكالية في بنية تفكير أفراده، سننتقل للوقوف عند مفهوم العنف الرمزي الذي يستعمل عادة كمقابل للعنف الجسدي، فإذا كان العنف الجسدي او المادي أو البوليسي..,، والذي بتعدد تسمياته يتوحد كممارس للقمع و الردع و الزجر المباشرو غير المباشر، المحسوس و غير المحسوس (كالقمع الإداري مثلا)، فإن تطور الحياة فرض على ما يبدو على الدولة تطوير آليات ممارسة العنف. ولعل العنف الرمزي هو أرقى نموذج تلجأ إليه الدولة للإطمئنان  على السبات العميق لدى أفراد الشعب. لكن ما هو العنف الرمزي؟                                                    
 يعرف السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو العنف الرمزي في كتابه "الهيمنة الذكورية" بالقول:"العنف الرمزي هو عبارة عن عنف لطيف و عذب و غير محسوس و غير مرئي لضحاياه أنفسهم، وهو عنف يمارس عبر الطرق و الوسائل الرمزية الخالصة أي عبر عملية التعرف و الاعتراف أو على الحدود القصوى للمشاعر و الحميميات"                               
      يبدو إذا أن صفة الاختفاء و التواري تسم هذا العنف إذ  يحضر على هيئات تجعله مرغوبا فيه من قبل ضحاياه أنفسهم .يمكن القول إن العنف الرمزي هو مختلف أشكال الإكراه المباشر أو غير المباشر التي يفرضها فرد على آخر او جماعة على أخرى مثل طريقة الكلام و الجلوس و الأكل و اللباس و هو موجود لا بين الأغنياء و الفقراء كما يذهب إلى ذلك كارل ماركس( البورجوازية و البروليتاريا ) بل نجده بين الأغنياء فيما بينهم و الفقراء فيما بينهم و لمزيد من التوضيح سنأخذ بعض أجهزة الدولة التي تمارس من خلالها العنف الرمزي  بتوظيفها لغرض الهيمنة و فرض منظومة معينة من القيم و الدلالات على أفراد الشعب على أنها النموذج الأرقى و الأسمى، فعلى سبيل المثال نلاحظ أن الخطاب السائد في  المدرسة يذهب إلى تهميش المهمشين و ذلك  بتكريس التفاوتات المعرفية ثم الاقتصادية طبعا ، إذ نسجل على هذا الخطاب كونه يشكل امتدادا للثقافة السائدة في الأوساط الغنية التي باتت تصنع النموذج و البراديغم و ذلك بفرض ثقافتتها واعتبارها تتويجا لمسار تاريخي اكتمل و انتهى لديها.فمثلا فكيف نطلب من التلاميذ كتابة إنشاء يصفون فيه رحلة قاموا بها إلى البحر في العطلة الصيفية و أغلبهم لم يبارح قريته العجيبة؟أومثلا                                                                                                  
كيف يدرس التلاميذ مادة المعلوميات في غياب تام للحواسيب أو قاعة متعددة الوسائط؟ أو كيف ينجزون تجربة في مادة العلوم الفيزيائية في غياب تام للمختبر؟ و في أحسن الحالات فإنهم يحاولون التأكد من كون امتزاج هذا المحلول و ذاك يؤدي إلى نتيجة معينة، لكن التجربة لا تنجح و لن تنجح، لأنها ببساطة محاليل انتهت مدة صلاحيتها، أو أو، هذه الوضعيات نادرا ما نجدها في الدارالبيضاء أو في الرباط أو في فاس... لأن في هذه المدن يوجد أبناء المسؤولين.               
     الأمر نفسه نسجله في الإعلام الرسمي على وجه الخصوص و الذي يستبلد المتلقي و يمارس عليه عنفا رمزيا خطيرا و ذلك لأنه يخاطب في المشاهد إما بطنه أو عواطفه. و للأسف فإننا كمشاهدين لا نستطيع مسايرة أكلات شميشة الشهية على ما أظن، لأننا كطبقة فقيرة لا نملك مطبخها أو فرنها بل حتى سكاكينها الحادة جدا هذا من جهة ، ومن جهة أخرى لا نعيش لا حب الأتراك و لا الهنود...ولعل ضحك السيدة وزيرة الصحة ياسمينة بادو عن سؤال كان يهم منطقة الرشيدية يدل على أنها تتمثل سكان المنطقة و كأنهم حيوانات أو ما شابه لكنه شعور متبادل.
        صحيح أننا نسجل إقبالا على هذا الإعلام الهرم،غير أن هذا المعطى لا يعني  شيئا لأن النوعية التي تقبل عليه هم ممن لا يدرون و لا يدرون أنهم لا يدرون.
    (  و لكي لا أطيل على القارئ سأترك التتمة إلى أجل قريب جدا.)

     
  


Quantcast

========================================================

سوسيولوجيا التربية:تعريفها،مجالاتها،أنواع التيارات و المقاربات فيها


تعريف :
يمكن اعتبار سوسيولوجيا التربية،بصفة عامة،كفرع من فروع علم الاجتماع الذي يدرس التربية كظاهرة اجتماعية.و تحفل أدبيات سوسيولوجيا التربية بعدة تعاريف نذكرمنها:
- علم اجتماع التربية يدرس العوامل الاجتماعية التي تؤثر في الصيرورة المدرسية للأفراد: تنظيم النسق/الجهاز المدرسي ،ميكانيزمات التوجيه، المستوى السوسيو- ثقافي للآباء،استدماج القيم والمعايير الاجتماعية من طرف المتعلمين،مخرجات النسق التعليمي.(Pédagogie:dictionnaire des mot clés…1997).
- سوسيولوجيا التربية،بصفة عامة، تعتمد المقاربة السوسيولوجية في دراسة الظواهر التربوية،لكنه بالمعنى الأنجلوساكسوني، وهو السائد،تحصر الظواهر التربوية في أنظمة التعليم في المستوى الأول، وتأتي دراسة المؤسسات الأخرى في سلم اعتباري ثانوي،على قدر علاقتها بالمدرسة والتعليم(سلسلة التكوين التربوي،عدد3).
- سوسيولوجيا التربية،أو المقاربة السوسيولوجية للتربية...مفادها تحويل النظريات والقوانين السوسيولوجية على الواقع التربوي والتعليمي،من خلال دراسة وتحليل النماذج التربوية والطرق والتقنيات والأساليب التربوية،والقضايا والمشكلات أو الإشكاليات التي تتكون داخل المؤسسات التعليمية النظامية واللانظامية.وتتم هذه الدراسة السوسيولوجية من خلال عملية تحليل تفاعل العناصر التربوية والتعليمية داخل نسقها الاجتماعي؛ وفي إطار نظرية شمولية ماكروسكوبية، تدرك مختلف العلاقات القائمة في عملية التفاعل بين مكونات البنية أو النسق التي توجد ضمنه الظاهرة التربوية(عبد الكريم غريب،2000،بتصرف).
- هي مقاربة للظاهرة التربوية مقاربة سوسيولوجية تعتمد على القواعد المنهجية للسوسيولوجيا في دراسة وتحليل الظروف والملابسات الاجتماعية المحيطة أو المؤطرة للموقف التربوي(سلسلة التكوين التربوي،عدد1، طبعة97-98)
مجالات سوسيولوجيا التربية:
هناك عدة مجالات تشتغل حولها سوسيولوجيا التربية،وهي مجالات متنوعة ومتزايدة باستمرار،مما يجعل مسألة تحديدها بدقة وشمولية أمرا صعبا.لذا نكتفي بهذا التحديد لأهم مجالاتها:
1- مجال المدخلات :
ونجد فيه:
- التلاميذ: وتنصب الدراسة هنا حول العوامل الفزيقية والنفسية والعقلية والاجتماعية، كالسن والجنس ومستوى الذكاء والمنشأ الاجتماعي والثقافة...حيث يتعلق الأمر بسيكولوجية التلميذ وبسوسيولوجيا التلميذ(مقاربة سيكو- سوسيولوجية)
- هيأة التدريس والإدارة: يتم التركيز هنا على المتغيرات المهنية والسياسية، كمستوى التكوين،ونمط الاختيار، والتموقع في البنية الاجتماعية، والتوجهات السياسية والنقابية...
2- مجال المخرجات :
ويرتبط بتلقين النظام الأخلاقي والمعارف، وبنمط البيداغوجيا وقواعد التقييم...
- تلقين النظام الأخلاقي والمعارف: هرمية المعارف،تقسيمها الأفقي(علوم أو آداب،علوم صرفة او علوم تطبيقية)،القواعد الصريحة او الضمنية التي تتحكم في النظام الأخلاقي(القيمي) وفي المعارف، عواقب هذه الهرمية على مستوى تشكيل الهوية المدرسية للمتعلمين.
- نمط البيداغوجيا: يهتم هنا بالكيفية التي تلقن بها المحتويات، وبتكنولوجيات التعليم( الوسائط الديداكتيكية) وباستعمال الزمن الذي يعكس في جزء منه الأهمية الاجتماعية للمواد الدراسية،وبطبيعة العلاقات بين المعلم والمتعلمين،وببنية السلطة داخل القسم..
- التقويم: ويرتبط بالقواعد الظاهرة أو الكامنة المهتمة باصطفاء وانتقاء الأفراد.
وهناك مجالات أخرى اهتمت بها سوسيولوجيا التربوية، كدراسة الأنظمة التعليمية وتحليلها،التنظيم المدرسي وعلاقته بسوق العمل، البحث في الأصل الاجتماعي للتلاميذ وعلاقته بالتحصيل والنجاح المدرسيين، الفشل المدرسي، المساواة و تكافؤ الفرص والفشل التربوي،الديمقراطية والتعليم...
وكمثال، نجد أن بعض المواضيع السوسيوتربوية التي اهتم بها في فرنسا تتمثل في: المردود المدرسي في علاقته بالامتيازات الثقافية، العوائق السوسيواقتصادية والثقافية عند الطفل/ المتعلم، تأثير البيئة الحياتية على لغة التلاميذ،التناغم والتنافر بين الانظمة التربوية والحاجات الاجتماعية- الاقتصادية للجماعة، المنبت/الأصل الاجتماعي للطلاب والارتقاء الجامعي،الطبقات الاجتماعية والبنى الفكرية لجمهور المدرسة، دمقرطة التعليم والتفاوت بين الأقاليم،انعكاسات الوقائع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على بنى التعليم وعلى المناهج والطرائق وإعداد المعلمين.(سلسلة التكوين التربوي،عدد3، 2001 )
المقاربات والتيارات السوسيوتربوية:
يعرف حقل سوسيولوجيا التربية مقاربات متعددة للظاهر التربوية في بعدها الاجتماعي،و منها يمكننا التعرف على المقاربات و التيارات التالية:
1- المقاربة الوظيفية:
تنظر الوظيفية إلى المجتمع باعتباره" نسقا اجتماعيا واحدا،كل عنصر فيه يؤدي وظيفة محددة" وتؤكد كذلك على"ضرورة تكامل الأجزاء في إطار الكل". وعليه،ترى الوظيفية المجتمع باعتباره نسقا اجتماعيا متكاملا،يقوم كل عنصر من عناصره بوظيفة معينة للحفظ على اتزان النسق واستقراره،وتوازن المجتمع واستمراره،ومعالجة الخلل دون المساس بالنظام الاجتماعي القائم،من خلال الاتفاق على معايير التنظيم الاجتماعي،التي يجب الخضوع لها،والاشتراك في قيم الحياة الاجتماعية،التي يجب الالتزام بها من أجل صيانة المجتمع،وترسيخ استقراره واستمراره(عادل السكري،1999). لذلك هناك من صنف المدرسة الوظيفية ضمن الاتجاهات الإيديولوجية المحافظة.
وتحت تأثير الوظيفية، تم الاهتمام بدراسة العلاقات المتبادلة بين المجتمع كبناء، والتربية كنظام، والمدرسة كمؤسسة اجتماعية ترتبط بالمؤسسات الاجتماعية الأخرى، وتتفاعل معها في تحديد وظائفها،وتحقيق أهدافها.وعليه،تم التركيز على العلاقة بين المجتمع والتربية والتعليم والاقتصاد،من أجل تكييف عناصر النظام الاجتماعي ووظائفه، حتى يستمر في البقاء والعمل في انتظام؛فتم الربط بين التربية والبيئة الاجتماعية،من خلال انتقاء وتوزيع وتدريب وإعداد قوى العمل اللازمة لسوق العمل؛وينصب الاهتمام، كذلك، على رصد كل أنواع الخلل التي تعوق نظام التعليم عن تأدية وظيفته في تدريب الأفراد، وتصنيفهم وتشكيلهم في مكانتهم الاجتماعية،التي يستحقونها طبقا لقدراتهم العقلية وإنجازاتهم الدراسية. وانطلاقا من المقاربة الوظيفية، تم الاهتمام بمعالجة الخلل في النظام التعليمي من خلال التركيز على دراسة نظام التعليم ذاته، او في علاقته بالنظم الفرعية الأخرى في المجتمع دون أن تشير إلى الخلل القائم في النظام الاجتماعي العام( عادل السكري،1999).
كما نجد أن بعض الدراسات صنفت المقاربات الوظيفية إلى مقاربة وظيفية كلاسيكية ومقاربة وظيفية تكنولوجية؛ حيث قامت المقاربة الوظيفية الكلاسيكية على فكرة الفروق الفردية الوراثية،التي تجعل الفرد يولد ولديه مقدار شبه تابت من الكفاءة والذكاء،لذلك حينما تقوم التربية المدرسية بوظيفة الاصطفاء والترتيب الهرمي للتلاميذ حسب إنجازاتهم و تهيئهم لأخذ مراكز اجتماعية متفاوتة،فإن هذه المقاربة تعتبر ذلك أمرا طبيعيا وعاديا، لأن التربية المدرسية تؤلف عن طريق التنشئة الاجتماعية، التي تساعد الفرد على استضمار قيم ومعايير المجتمع ككل، وتفرق عن طريق الاصطفاء،لأنها تعمل على تطوير الكفاءات والانجازات الفردية،شريطة أن تكون معايير الاصطفاء موضوعية فقط. وقد تميزت فترة ظهور الوظيفية التكنولوجية(1950-1960) بوجود حاجيات جديدة لليد العاملة المؤهلة في المجتمع الصناعي الغربي، الذي بدأ يعرف تقدما تكنولوجيا سريعا ونموا اقتصاديا كبيرا. وقد تقاطعت الوظيفية التكنولوجية مع نظرية الرأسمال الإنساني في كون التربية استثمار منتج على المستوى الفردي والاجتماعي،لذلك يجب استثمار كفاءات الفرد إلى أقصى حد،وفق ماتسمح به قدرات وحاجيات المجتمع، لكي لاتهدر الموارد البشرية الثمينة. وقد سادت في هذه الفترة، كذلك، قناعتان أساسيتان: الأولى سياسية، تقول بان الانفجار والانتشار الكبير للتربية هو أحسن وسيلة لدولة تريد أن تكون ديمقراطية لكي تحد وتقلل من التمايزات الصارخة، والفروقات السوسيواقتصادية؛والثانية اقتصادية، ترى أن التربية تساهم في التنمية الاقتصادية وذلك بتأهيل اليد العاملة وإعداد الأطر الملائمة (نظرية الرأسمال الإنساني)(سلسلة التكوين التربوي،عدد3).
2- المقاربة النقدية(الراديكالية والصراعية) :
تضم هذه المدرسة مختلف التيارات النقدية الراديكالية(في مقابل المحافظة) التي عملت على نقد الواقع والمعارف الاجتماعية القائمة، من أجل مجتمع أكثر عدلا ورقيا، ومن اجل محاربة الاستلاب الإيديولوجي والمعرفي. وكرائدة لهذا التيار،اشتهرت مدرسة فرانكفورت،وهي تضم مجموعة من المثقفين اليساريين ذوي النزعة الماركسية الجديدة،وبدأت نشاطها في أوائل الثلاثينيات من القرن 20،" كنظرية نقدية للمجتمع"،بحيث عمل أعضاؤها على الاهتمام بفحص أشكال الحياة الاجتماعية ونقدها،والبحث في أصولها وجذورها،والمصالح التي تعبر عنها،والمعارف التي ترتبط بها، والمشكلات التي تنشأ فيها، والأزمات التي تعاني منها.كما حرصوا على كشف ماهو فاسد في الواقع السائد، والعمل على تغييره، ورفض القيم التقليدية البالية والمعايير الاجتماعية الجامدة، والسعي إلى تجاوزها واستبدالها بقيم ومعايير أخرى أصلح للتغيير. وكانت الرسالة الأساسية لمدرسة فرانكفورت هي مواجهة كافة التنظيرات التي تنكر أو تغفل ذاتية الإنسان ووعيه وفعاليته.
كما نجد بأن هناك من صنف هذه التيارات النقدية في فئة المقاربات الصراعية، التي تعتقد بان المدرسة لا تنتقي من هو أكثر قدرة وإنتاجية وذكاء، وإنما من هو أكثر مطابقة ومسايرة لتمثلات وتوقعات الفئة التي تمتلك سلطة وضبط النظام التعليمي،للمحافظة او الزيادة في امتيازاتها وسلطتها داخل المجتمع.(سلسلة التكوين التربوي، عدد3). وعليه فإن المدرسة تستعمل كأداة للصراع الطبقي والسياسي والاجتماعي،وقد عمل أصحاب التيار النقدي أو الصراعي على تحليل وتوضيح هذا الصراع وآلياته السوسيوتربوية.
وقد تم توجيه الاهتمام من خلال النظريات التربوية النقدية نحو ربط المعرفة التربوية بالمصالح الاجتماعية والسياسية والاقتصادية،وأن المعرفة التي تقدم للمتعلمين بالمدارس إما أن تكون معرفة تبريرية،تسعى للدفاع عن مصالح معينة،وتبرير أوضاع سياسية محددة،أو معرفة تحريرية تكشف الأوضاع الفاسدة والأفكار الزائفة،وتحرير الإنسان من القهر التربوي والسياسي، والاستغلال الاجتماعي عامة. كما تم طرح الأسئلة حول إنتاج المعرفة وشرعيتها وتوزيعها وتقويمها داخل المدرسة،ونوع المصالح التي تدافع عنها، والفئات التي ترتبط بها خارج المدرسة،وشكل العلاقات والمبادئ التي تأكدها،والسياسات التي تحكمها، والمؤسسات التي تتحكم فيها في إطار ثقافة ومجتمع معيين.(انظر أطروحات بعض ممثلي هذا التيار، ك "كارنوي" و بورديو وبرنستين...في موضوع:سوسيولوجيا المعرفة التربوية ، في هذا العدد)
3-المقاربات ذات النموذج المفسر :
عكس المقاربات النقدية والصراعية التي اهتمت بما يجري داخل النظام المدرسي التربوي والمدرسي من عمليات إعادة الإنتاج والتحكم السلطوي والإيديولجي في الطبقات الاجتماعية، فإن أصحاب هذه المقاربة ذات النموذج التفسيري، اهتموا فقط بدراسة المنظومة التربوية من الخارج، من خلال دراسة التأثيرات المدرسية التعليمية،معتمدين على ترسانة من الإجراءات الإحصائية والوصفية والاستدلالية، محاولين بالأرقام والإحصائيات تبيان محدودية علاقة المدرسة بالحراك الاجتماعي.
وهناك عدة أطروحات التي اعتمدت نموذجا معينا للتفسير، كالنموذج الإحصائي لجينكس، والنوذج النسقي لسوروكن،والنموذج النسقي-التركيبي لبودون Booudon،الذي سنحاول التطرق إليه لأهميته وشموليته.
ينطلق بودون من مبدإ مفاده أن مشكلة الحراك الاجتماعي أو عدم تكافؤ الفرص،هي نتيجة لمجموعة من المحددات التي لايمكن تصورها منعزلة بعضها عن البعض، وإنما يجب التعامل معها كمجموعة تشكل نسقا.وانطلاقا من معطيات أمبريقية إحصائية،حاول بودون تقديم نموذج نسقي تفسيري لمسارت التمدرس والتراتبية الاجتماعية في المجتمع الصناعي الليبرالي،انطلاقا من متغيرات المنشأ العائلي ومستوى الدراسة والوضع الاجتماعي...وقدم نموذج بودون تفسيرا إجماليا نسقيا لعدد من الظواهر الإحصائية(كمنافذ الشغل والدراسة والمواقع) والمعطيات السوسيولوجية(المرتبطة أساسا بالإواليات المولدة لعدم المساواة).وكأمثلة لبعض النتائج التي توصل إليها بودون: في مجتمع تراتبي يستعمل نظاما متنوعا وهرميا من الكفاءات،فإن الدمقرطة تعرف بالضرورة حدودا لايمكن تجاوزها؛عدم تكافؤ الفرص ينجم بالضرورة عن التقاء نسقين:نسق المواقع الاجتماعية ونسق المسارات الدراسية،حيث نظام اجتماعي تراتبي ونظام تربوي هرمي لا يمكن إلا أن ينتج عنهما لا مساواة وعدم تكافؤ الفرص؛الحراك الاجتماعي يتأثر كثيرا بالتركيب بين بنية الهيمنة وبنية الجدارة والاستحقاق،إذ أن بنية الجدارة والاستحقاق تعني أن مستوى الدراسة هو الذي يحدد الموقع الاجتماعي للأفراد،أما بنية الهيمنة فهي على عكس بنية الاستحقاق، تقلل أو تضعف من فعل الجدارة أو الاستحقاقات،لأنها نابعة من كفاءات الأفراد ذوي المنشأ الاجتماعي المرتفع، حيث يهيمنون على أحسن المواقع، وهكذا يكون الأفراد الذين لهم نفس المستوى الدراسي(نفس الشهادات الدراسية) يحصلون على موقع اجتماعي مرتفع بقدر ما يكون مستواهم(موقعهم)الاجتماعي مرتفعا.(سلسلة التكوين التربوي،عدد5. 5،2001، بتصرف)
4-المقاربة التفاعلية الرمزية :
تعتبرُ التفاعلية الرمزية واحدةٌ من المحاور الأساسيةِ التي تعتمدُ عليها النظرية الاجتماعية، في تحليل الأنساق الاجتماعية.
وهي تبدأ بمستوى الوحدات الصغرى (MICRO)، منطلقةً منها لفهم الوحدات الكبرى، بمعنى أنها تبدأُ بالأفراد وسلوكهم كمدخل لفهم النسق الاجتماعي. فأفعالُ الأفراد تصبح ثابتةً لتشكل بنية من الأدوار؛ ويمكن النظر إلى هذه الأدوار من حيث توقعات البشر بعضهم تجاه بعض من حيث المعاني والرموز. وهنا يصبح التركيز إما على بُنى الأدوار والأنساق الاجتماعية، أو على سلوك الدور والفعل الاجتماعي.
ومع أنها تَرى البُنى الاجتماعية ضمناً، باعتبارها بنى للأدوار بنفس طريقة بارسونز Parsons ، إلا أنها لا تُشغل نفسها بالتحليل على مستوى الأنساق، بقدر اهتمامها بالتفاعل الرمزي المتشكِّل عبر اللغة، والمعاني، والصورِ الذهنيةِ، استناداً إلى حقيقةٍ مهمةٍ، هي أن على الفرد أن يستوعب أدوارَ الآخرين.
إن أصحابَ النظريةِ التفاعلية يبدَءُون بدراستهم للنظام التعليمي من الفصل الدراسي (مكانَ حدوثِ الفعلِ الاجتماعي). فالعلاقةُ في الفصل الدراسي والتلاميذِ والمعلم، هي علاقةٌ حاسمةٌ؛ لأنه يمكن التفاوضُ حول الحقيقة داخل الصفّ، إذ يُدرك التلاميذ حقيقةَ كونهم ماهرين أو أغبياءَ أو كسالى. وفي ضوء هذه المقولات يتفاعل التلاميذ والمدرسون بعضهم مع بعض، حيث يحققون في النهاية نجاحاً أو فشلاً تعليمياً.
ومن ممثلي النظريةِ التفاعليةِ الرمزية:
* جورج هربرت ميد George H. Mead (1863-1931):
قام ميد بتحليل عمليةِ الاتصال، وتصنيفها إلى صنفين: الاتصالُ الرّمزي، والاتصال غير الرمزي. فبالنسبة للاتصال الرمزي فإنه يؤكّد بوضوحٍ على استخدام الأفكار والمفاهيم، وبذلك تكون اللغةُ ذاتَ أهميةٍ بالنسبة لعملية الاتصال بين الناس في المواقفِ المختلفة، وعليه فإن النظام الاجتماعي هو نتاجُ الأفعال التي يصنعُها أفراد المجتمع، ويُشير ذلك إلى أن المعنى ليس مفروضاً عليهم، وإنما هو موضوعٌ خاضع للتفاوض والتداولِ بين الأفراد.
* هربرت بلومر H. Blumer (1900-1986):
وهو يتفق مع جورج ميد في أن التفاعل الرمزيَّ هو السمةُ المميزةُ للتفاعل البشري، وأن تلك السمةَ الخاصةَ تنطوي على ترجمةِ رموزِ وأحداثِ الأفراد وأفعالهم المتبادلة. وقد أوجَزَ فرضياتِه في النقاطِ التالية:
• إن البشرَ يتصرفون حيالَ الأشياءِ على أساسِ ما تعنيهِ تلك الأشياءُ بالنسبة إليهم.
• هذه المعاني هي نتاجٌ للتفاعل الاجتماعي الإنساني.
• هذه المعاني تحوَّرُ وتعدّل، ويتم تداولُها عبر عملياتِ تأويلٍ يستخدمُها كلُّ فردٍ في تعامله مع الإشاراتِ التي يواجهُها.
* إرفنج جوفمان ErvingGoffman (1922-1982):
وقد وجَّهَ اهتمامَهُ لتطوير مدخلِ التفاعلية الرمزية لتحليلِ الأنساق الاجتماعية، مؤكداً على أن التفاعلَ – وخاصةً النمطَ المعياريَّ والأخلاقيَّ- ما هو إلا الانطباع الذهنيُّ الإرادي الذي يتم في نطاق المواجهة، كما أن المعلوماتِ تسهم في تعريف الموقف، وتوضيحِ توقعات الدَور.
مصطلحاتُ النظريّة التفاعلية الرمزية:
- التفاعل: وهو سلسةٌ متبادلةٌ ومستمرةٌ من الاتصالات بين فرد وفرد، أو فرد مع جماعة، أو جماعةٍ مع جماعة.
- المرونة: ويقصد بها استطاعةُ الإنسان أن يتصرفَ في مجموعةِ ظروفٍ بطريقة واحدة في وقت واحد، وبطريقةٍ مختلفة في وقتٍ آخرَ، وبطريقةٍ متباينة في فرصةٍ ثالثة.
- الرموز: وهي مجموعةٌ من الإشارات المصطَنعة، يستخدمها الناسُ فيما بينهم لتسهيل عمليةِ التواصل، وهي سمة خاصة في الإنسان. وتشملُ عند جورج ميد اللغةَ، وعند بلومر المعاني، وعند جوفمان الانطباعاتِ والصور الذهنية.
- الوعيُ الذاتي Self- Consciousness: وهو مقدرةُ الإنسان على تمثّل الدور، فالتوقعات التي تكُون لدى الآخرين عن سلوكنا في ظروف معينة، هي بمثابة نصوصٍ يجب أن نَعيها حتى نُمثلَها، على حدّ تعبير جوفمان.(د.محمد عوض الترتوري،عن:almualem.net)
6- المقاربة السوسيوبنائية :
المقاربة السوسيوبنائية، تنطلق من ثلاثة أبعاد أساسية:
- البعد البنائي لسيرورة تملك المعارف وبنائها من قبل الذات العارفة.
- البعد التفاعلي لهذه السيرورة نفسها،حيث الذات تتفاعل مع موضوع معارفها، والمراد تعلمها.
- البعد الاجتماعي(السوسيولوجي) للمعارف والتعلمات حيث تتم في السياق المدرسي، وتتعلق بمعارف مرموزة من قبل جماعة اجتماعية معينة.وعليه فإن المقاربة السوسيوبنائية هي مقاربة بنائية تفاعلية اجتماعية(فليب جونير، ترجمة الحسين سحبان،2005).
.................................................. ............................
* مراجع:
- Pédagogie:dictionnaire des concepts clés…Françoise Raynal et Alain Rieunier,1997 ,ESFéditeur,Paris.
- عبد الكريم غريب، سوسيولوجيا التربية، منشورات عالم التربية،الطبعة الأولى، 2000.
- سلسلة التكوين التربوي،عدد1 ، مطبعة النجاح الجديدة ،1997-1998.
- سلسلة التكوين التربوي،عدد،3، مطبعة النجاح الجديدة، 2001.
- د. عادل السكري، نظرية المعرفة من سماء الفلسفة إلى أرض المدرسة، الدار المصرية اللبنانية، الطبعة الأولى،1999.
- سلسلة التكوين التربوي،عدد5،مطبعة النجاح الجديدة،2001.
- فليب جونير، الكفايات والسوسيوبنائية..إطار نظري، ترجمة الحسين سحبان،مطبعة النجاح الجديدة،الطبعة الأولى 2005.

 منقول المصدر: دفاتر

============================================================

جدوى الدرس السوسيولوجي


دلفت مكتب البريد المقابل لساحة جامع الفنا بمدينة مراكش , لأسحب مبلغا ماليا , بعد أن شاهدت عروضا مختلفة و عجيبة في ذات الوقت بهذه الساحة .

أبصرت عن شمالي لوحة إلكترونية وضعت حتى يضغط الزبون على الخدمة التي يرغب فيها , ليحصل على تذكرة مرقمة تنبئه بدوره أمام شبابيك موظفي المكتب . بعد برهة دخلت أروبية يظهر أنها فرنسية المنشأ مكتب البريد لشراء طوابع بريدية, لعلها تريد إرسال تذكار لأصدقائها هناك خلف البحر. لم تلحظ صاحبتنا اللوحة الإلكترونية , و أمام حيرتها إزاء كيفية اقتناء حاجياتها تقدم شاب في مقتبل العمر ليدلها على هذه الأخيرة و يريها طريقة الاستعمال و كيفية الحصول على التذكرة , بالرغم من أن اللوحة الإلكترونية تضم إرشادات بلغتها الأم .

و لما حصلت على التذكرة بدا على محياها الإنبهار الذي لم تستطع إخفاءه , فتقدمت للشاب بالشكر و بابتسامة علها تداري ذلك الإعجاب الذي ظهر فجأة .

فقد كانت قبل دقائق معدودة وسط جامع الفنا , ذاك الملتقى الثقافي و الإثني حيث يجتمع الرواة والبهلوانيون و الموسيقيون و الراقصون و مروضو الأفاعي و العرافون…مشاهد و وقائع تعبر عن المغرب العتيق , حيث التركيب و الإختلافات الثقافية و الإثنوغرافية داخل هذا الهنا تثير الدهشة و تستفز لديك عشرات الأسئلة الحارقة . في أي مجتمع نحيا؟ ما هي طبيعة مجتمعنا المغربي؟ هل هو فيودالي أم رأسمالي ؟ قبلي أم أبوي ؟ مجتمع يظل عصيا على التصنيف و التجنيس .

في نفس اللحظة تصطدم صاحبتنا بنظام معلوماتي و بيسر التواصل و التخاطب بلغات أجنبية.سلوكيات وأشكال نمو و تطور حضاري تكشف عن حداثة تملأ المكان .

كيف يمكن تحويل الإختلافات الإثنوغرافية و الثقافية و الجغرافية…إلى ثروة ثقافية عوض استغلال التركيب و الإختلاف و تسخيره سياسيا و الزج بالمغرب في غيابات التفرقة تماما كما فعلت السوسيولوجيا الكولونيالية و تفعل هنا و الآن بعض الإيديولوجيات التي تصنف المواطنين المغاربة إلى درجات حسب الجنس و اللغة و الدين و الطبيعة الجغرافية؟

بل ليس فقط الإبقاء و الحفاظ على هذه الثروة الثقافية و تجميدها كمتحف فولكلوري تشرع أبوابه كلما زار بلادنا أجنبي أو كلما راودنا حنين عبق الزمان التليد , و إنما كيف يمكن توظيف هذا الكنز في سياق إمكاناتنا و طاقانتا بما يفيد مستقبلنا العلمي و اختياراتنا الواعية المنبنية على العقلنة و الترشيد.

أثار لدي هذا الموقف تساؤلات عدة . كنا بالأمس القريب نمر على ذات المواقف و المشاهد دون أن نعيرها أهمية تذكر.  وهي الحبلى بالمؤشرات و المعلومات اليومية التي تلتقطها أعيننا من الشارع أو في أماكن عديدة و حتى التي يمكن لملمتها بين السطور القابلة للإدراك. إدراك التابث و المتغير, إدراك الناشئ من الوقائع و الزائل منها .ألم  يخبرنا لويس سانتوس بأن المجتمع و ما يعتمل داخله يقدم لنا الأسئلة و الإجابات و التفاصيل ؟

إن موقفا قد يبدو في أحايين كثيرة ” كموقف صاحبتنا” عابرا, إن لم نستبدل ملاحظتنا البيولوجية له بملاحظة سوسيولوجية , و لنقل بعين سوسيولوجية قادرة على تشفير الرموز و إعمال النظر و التفكير في مختلف تضاريس هذا الموقف .

و منه نقول إن إنتاج المعنى المفضي للفهم يتأتى من خلال الدرس السوسيولوجي الذي يمكننا من وسيلة تنظيم الوقائع الإجتماعية و الحكم عليها , على شاكلة مغايرة لقراءاتنا السابقة.

و بالمقابل فالدرس السوسيولوجي يعد أصعب الدروس و أعمقها لفهم الوقائع , فليس ثمة أرائك مصفوفة في اتجاه الدرس السوسيولوجي . إنه ذاك الذي يخلف لديك قلقا و انهجاسا بالتساؤل . ألم يخبرنا بورديو بأن مهمة السوسيولوجيا تفجير السؤال النقدي. نقد التفاسير الجاهزة التي أطلقت و تطلق على المجتمع المغربي و التي ترتكن إلى المقاربات المطمئنة أحيانا و الكسولة أحايين كثيرة.

و غني عن البيان أن  الدرس السوسيولوجي يفترض التجرد الجزئي عن الذات حتى نصير موضوعيين , من تلقاء ذواتنا , في تعاملنا مع الواقعة الإجتماعية. فحتى يتسنى لنا فهم هذه الأخيرة يلزم قبلا ترك مسافة معينة بيننا و بينها و الرجوع إليها للتأثير فيها بعدا. و بعبارة أدق فإن الدرس السوسيولوجي يجعلك دائما على استعداد لملاحظة التغيرات و فهمها عبر عمليتي الهدم و البناء لمزيد من الفهم و الإحتواء .

و الواقع أن هذا الأخير لا يدعي لنفسه الفهم الدوغمائي للأشياء و بلوغ الحقيقة المجردة , بل ينهجس بالإقتراب من أحوازها عبر التساؤل و التفكير و التفكيك. فكل جواب يبطن بين ثناياه سؤالا جديدا حول شروط إنتاج الواقعة الإجتماعية و إعادة إنتاجها. إن الدرس السوسيولوجي هو محاولة تمهيد الطريق  بواسطة مجموعة من المقاربات و الخطاطات الخاطئة و المصيبة , حتى يصير بالإمكان إعادة قراءة الوقائع الإجتماعية , من أجل فتح سبل جديدة للدرس السوسيولوجي.

ألم يقل ماكس فيبر” كلنا نعلم , في مجال العلم , أن عملنا سيصبح متجاوزا بعد عشر سنوات , أو عشرين أو خمسين سنة . و كل عمل علمي مكتمل لا يعني في الحقيقة سوى الشروع في طرح أسئلة جديدة , و يقتضي بالتالي تجاوزه. و على كل راغب في خدمة العلم أن يرضى بهذا المصير”

___________________________________________________________

الحداثة

بقلم : إبراهيم بلوح

المقدمة

عرف المجتمع الأروبي منذ القرن السادس عشر تحولات كبرى لم يعرف العالم مثيلا لها .

تمثلت في الثورة الصناعية اقتصاديا , و الثورة العلمية و التقنية معرفيا , و الثورة العلمانية و

الديمقراطية اجتماعيا و سياسيا . فنتج عن كل هذه التحولات ما يسمى بالحداثة .

و جدير بالذكر أن الحداثة تتمثل في المقاربة العقلانية لمختلف المواضيع , فكرية كانت أو سياسية أو

اجتماعية أو ثقافية . فهل باستطاعة الحداثة أن تجد لنفسها موضعا داخل واقع الدول الرازحة تحت نير

التقاليد و الثباث ؟ أم أصبحنا نرى الحداثة أينما يممنا وجوهنا ؟

ألا يمكن أن نعتبر هذه الحداثة القادمة من الشمال تشكل عنصرا دخيلا أو متطفلا , ظل يتعايش مع

نقيضه داخل البنى و الأنساق المجتمعية لدول الجنوب ؟

لكن ما الحداثة أولا ؟ و ما هي بداياتها الأولى ؟ أين تتجلى هذه الأخيرة؟ على الصعيد الصناعي أم

التقني أم الفكري و الثقافي أم تتمظهر داخل كل هذه الأصعدة و تعمل على إحداث تغيير هائل داخلها ؟

و بالمقابل ما تأثيراتها على الثقافات التي تسبقها ؟ في قطعها مع كل تقليدي و ثابت , ألا تمارس هذه

الحداثة المزهوة بانتصاراتها اقصاء لغيرها من الثقافات ؟

كيف السبيل إلىالتواصل معها و هي المتخمة بالماديات والمسلحة بالعلوم و التقنية و النظرة الحديثة

للعالم ؟ و إذا ما قررنا امتلاك حداثة خاصة بنا “جوانية المنشأ” ما هي الحداثة التي نرومها ؟

بداية الحداثة

إن الكلام عن الحداثة يطرح العديد من الإشكالات التي تخص بداية هذه الأخيرة . حيث اختلف

كثير من المفكرين في تحديد إرهاصاتها الأولية. ” فالمفكر الأمريكي البراجماتي ريتشارد رورتي يلحق

الحداثة بفكر ديكارت )القرنان ( 17و 16و المفكر الألماني هابرماس يربطها بعصر الأنوار)القرن(18

والناقد الأدبي الأمريكي فريدريك جامسون يحدد تاريخ ميلادها في النصف الأول من هذا القرن”1.

يرىوالمفكرون أن بداية الحداثة كانت سنة1436 حين اختراع غوتنبيرغ للطباعة و البعض

الآخر يرى أنها تبدأ في العام 1520 مع الثورة اللوثرية ضد سلطة الكنيسة. ومجموعة أخرى تربط

بينها وبين الثورة الفرنسية عام 1789أو الثورة الأمريكية عام 1776وقلة من المفكرين يظنون أنها لم

تبدأ حتى عام 1895 مع كتاب فرويد “تفسير الأحلام” وبدء حركة الحداثة (MODERNISME) في

الفنون والآداب. مما يدل على الغموض و الإضطراب الذي يكتنف دراسة و تحليل ظاهرة الحداثة .

و من المعلوم أن الكلمة اللاتينية ” حديث”MODERNUS قد ظهرت في القرن الخامس للميلاد ,

و الكلمة الفرنسية ” حداثة” MODERNITE قد ظهرت بعد ذلك بحوالي عشرة قرون .

أما الحداثة كتعبير عن رؤية خاصة للوجود و الفكر و المجتمع فقد برزت في النصف الثاني من

القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين الذي عرف نهضة فكرية و علمية و اقتصادية … حيث أن

دول أوربا شهدت حركات سياسية و إصلاحات دينية, و توسعات جغرافية و تجارية, و ثورات علمية

و صناعية, ظهرت, على الخصوص, في انجلترا و فرنسا و أمريكا, و انتقلت بعد ذلك ,إلى بعض دول

آسيا مما انعكس على ميدان التربية و التعليم , و الميدان العلمي و الصناعي و التقني و المعرفي.

تعريف الحداثة

عادة إشكالية التعريف تعتريها الإلتباسات و الإختلافات , و ذلك أمر طبيعي كونها تقارب من ذهنيات

مختلفة ومن مدارس و إيديولوجيات متعددة.

يرى آرون ريمون ” أن ثمة تحديدا واحدا اليوم , هو الشائع و البديهي , يتناول الحداثة بوصفها عملية

محققة , تساعد على تنظيم الإنتاج عقلانيا , و ذلك في سبيل إنتاجية تبلغ حدها الأقصى”2

و في معرض تعريفه للحداثة يتحدث جان بودريار قائلا” ليست الحداثة مفهوما سوسيولوجيا , و لا

مفهوما سياسيا , و ليست بالتمام مفهوما تاريخيا , بل هي نمط حضاري خاص يتعارض مع النمط

التقليدي , أي مع كل الثقافات السابقة عليه أو التقليدية . فمقابل التنوع الجغرافي و الرمزي لهذه

الأخيرة تفرض الحداثة نفسها على أنها شيئ واحد متجانس , يشع عالميا انطلاقا من الغرب .3

اما الدكتور سبيلا فيعتبرها ” فكرة تؤشر على وقائع و احداث , و على سيرورة تاريخية ضخمة , و

على دينامية سوسيولوجية لها مساراتها و نواميسها و محدداتها و تفاعلاتها الداخلية “4

ويمكن إجمال التعريفات التي تطرقت لموضوع الحداثة في كونها تعكس بأكملها التحول الهائل الذي

غزا مجال الفكر و التقنية و المعرفة بصفة عامة .

تجليات الحداثة و إفرازاتها

بالرغم من أن الحداثة ترتبط عادة بالتقدم التكنولوجي و الصناعي إلا أن التغييرات الفكرية

كانت الأكثر تأثيرا، و تجسدت في الصراع و الخصام الأدبي بفرنسا بين أنصار الجديد و أنصار

القديم و تشمل التغييرات الفكرية السياسة والاقتصاد والدين وعلم الاجتماع…

كما و تنسحب هذه التغييرات على مستويات الحياة كافة ، الثقافية والسياسية ، والقيم الجمالية

والاخلاقية ، التى تأخذ طريقها عبر وسائل الإعلام الحديثة بالتأثير على السلوك الاجتماعي تأثيرا

مباشرا يرسخ لدى الإنسان ثقافة جديدة تقوم على تقديس الذات والعقل وتنامي الشعور لدى الافراد

بحاجتهم المتزايدة الى الحريات الفردية ، والى الرغبة في تحطيم القواعد العامة و القديمة و

تخطيها عبر الرفض المستمر للأنماط التقليدية في القيم والعادات والثقافة الإجتماعية السائدة.

كما و أشرنا سابقا فإن الإيديولوجيا الحداثية سيطرت في مجال الإقتصاد باتخاذها للشكل الرأسمالي

الجشع المنكب على عبادة الفعالية و الربح الذي تخلص من الرقابة الأخلاقية و الإجتماعية و السياسية

ليمارس سيطرته الموجهة عبر فتح المنافذ لتصريف منتوجاته الصناعية لمزيد من الربح المسعور في

تغييب تام للقيم الدينية و الإنسانية.

أما على المستوى السياسي فقد أفرزت الحداثة شكلا سياسيا تمثل في الديمقراطية ,تعبيرا عن حرية

الفرد و المجتمع في اتخاذ قراراته كونها تعتبره واعيا و مسؤولا و صانعا لأفكاره و أفعاله.

و دفعت بذلك الدولة و الأحزاب و جمعيات المجتمع المدني و المفكرين و المثقفين إلى جعل

الديمقراطية خلاص المجتمعات من الماضي و الثبات.

هذه التغيرات منحت أوربا القوة و النفوذ اللازمين لغزو ثقافات المجتمعات المتخلفة على أصعدة عدة ,

صناعية و تقنية و علمية…حيث لم تكن السيطرة العسكرية غير أحد عناصر الغزو.

“فالذي يمتلك الحداثة , أي يمتلك العلم و التقنية و النظرة الحديثة للعالم , يمتلك القوة , و هو ليس

مستعدا للتفريط فيها و توزيعها “5

و هنا تتبدى استبدادية الحداثة في كونها تروم استعباد الآخرين و تسخيرهم لمآربها الخاصة . بل

وإغراق أسواقهم بمنتجاتها السيئة .

الأمر الذي جعل دول الجنوب المتخلفة صناعيا و تقنيا و معرفيا تشعر بحصار التحديث يطوقها على

جميع الأصعدة .

و أمام هذا الوضع المأزوم و الممتلئ بخيبات الأمل و الشعور بالإستيلاب و الدونية و الرخاوة

المعرفية و العلمية…وجدت الدول المتخلفة نفسها أمام واقع ضبابي يتسم بالحيرة و التردد.

الشيء الذي أفرز على مستوى النخبة ثلاث تيارات كل واحد يتسلح بعدة نظرية و عملية قصد درأ

الخطر الداهم القادم من الغرب ,أو مداهنته و الإستسلام له , من جراء وصايته الثقافية وهيمنته

السياسية الإقتصادية .

و يتمثل التيار الأول في التقليديين الذين رأوا في التمسك بالموروث و التقليد السلاح الأمثل

للتصدي في وجه الحداثة القادمة من الغرب. و التي تتجسد في أوجه متعددة من الشرور التي داهمت

مجتمعاتنا منذ دخول الإستعمار. ويتبنى أصحاب هذا الطرح الرفض التام لها كونها مرادفا للإستغلال و

انحطاط القيم الأخلاقية و التفكك الأسري و المخدرات …

هذا التيار الداعي إلى العودة إلى التراث الماضي , لما له من أهمية تخص طبيعة الإنسان العربي في

استناده للمعرفة الدينية العقائدية و العملية , يحاول مفكروه البحث و التنقيب عن الأصول

الإبستمولوجية التي ارتكز عليها الفكر العربي في تجربته الأولى الرائدة .

بينما يرى نقيض التيار السالف – تيار الحداثيين- اتخاذ الغرب نموذجا و ذلك بالقطع مع كل ما

يتشدق به التقليديون و التخلي عن كل ما هو طوباوي و رجعي . فالتطور و التقدم عندهم لا يتأتى

عبر مداعبة أشباح الماضي و لوك الأوهام المرتبطة به .

وإنما بضرورة الإنخراط الفعلي في العصر باعتماد العلم و التقنية و العقلانية و الديمقراطية و كافة

آليات الحداثة كفكر و ممارسة حتى يمكن اللحاق بالركب الحضاري و التقدمي.

و نشير هنا إلى أحد أعلام الحداثة العربية المتمثلة في الجانب الثقافي – الشعر تحديدا- أدونيس حيث

يعزو الرجل سبب تخلف الإبداع العربي إلى عدم القطع مع كل أشكال الفكر التقليدي و الإستبدادي .

حيث يقول :” لايمكن أن تنهض الحياة العربية ويبدع الإنسان العربي إذا لم تتهدم البنية التقليدية السائدة

في الفكر العربي والتخلص من المبنى الديني التقليدي”6

فهو لايعترف بالتحول و اللحاق بالحداثة الأدبية إلا من خلال الحركات الثورية السياسية والمذهبية

،وكل مامن شأنه أن يكون تمردا على الدين .فعمد إلى إسقاط الحداثة على الشعر الجاهلي و الشعراء

الصعاليك و الشعر النواسي و الإلحادي…

وفي كتابه فن الشعريضيف قائلا: ” إن فن القصيدة أو المسرحية أو القصة التي يحتاج إليها الجمهور

العربي ليست تلك التي تقدم له تسلية أو مادة استهلاكية ،وليست تلك التي تسايره في حياتة الجادة ،

وإنما هي التي تعارض هذه الحياة .أي تصدمه وتخرجه من سباته ،تفرغه من موروثه وتقذفه خارج

نفسه, إنها التي تجابه السياسة ومؤسساتها،الدين ومؤسساته العائلة ومؤسساتها، التراث ومؤسساته،

وبنية المجتمع القائم ,كلها بجميع مظاهرها ومؤسساتها ،وذلك من أجل تهديمها كلها أي من أجل خلق

الإنسان العربي الجديد ،يلزمنا تحطيم الموروث الثابت ،فهنا يكمن العدو الأول للثروة والإنسان “7

أما التيار الثالث , و الذي يعتبر وسطيا , كونه يروم التوفيق بين الموقفين السابقين , بمعنى أن

ينهل من ثقافة الحداثة ما يخدم الأصالة التي تشكل سمات المجتمعات التقليدية .

فرواد هذا التيار يعتقدون بعدم جدوى الإنكفاء على الذات و الإقتصار على سرد الماضي و تمجيده

كحل للمعضلة, و لكن بمحاولة البحث الحثيث و الجاد عن حداثة و ليدة المجهود القومي أو الوطني

” فتحقيق الحداثة ليس أمرا سهلا , فهو يتطلب ثورة على مستوى الوعي للخروج من دائرة الضباب و

الأوهام التاريخية الإستبدالية أو الإستعاظية التي تعزي بها الثقافات المتأخرة نفسها إلى حد ما , و هذا

أمر صعب ” 8

هذه الإختلافات في الذهنية و التفكير خلقت حراكا اجتماعيا واسعا داخل البنى المجتمعية. و في كثير

من الأحيان أفرزت خلافات حادة و تطاحنات اقتصادية و اجتماعية و سياسية …

الحداثة التي نريد

أصبح من الواضح أن الإيديولوجية الحداثية تزيح كل ما لم يكن موافقا لنظرة فكرها الأوحد و

رؤيتها الحديثة للعالم المؤمنة بالقانون “الطبيعي” .

فتجاوز العالم الخارجي و احتقاره بل الاعتداء عليه عواطف حركت و مازالت تحرك الحداثة ضد عالم

منبوذ لا يستحق التمتع بالكرامة الحديثة .
مبررة هذا التجاوز و التسلط بإنجازاتها العلمية و التقنية التي تفوقت على كل قديم و تليد، واصفة
بذلك حقارة ثقافة الآخر رغم أن في اختلاف الرساميل الرمزية للثقافات تكمن الثروة الفكرية.
و هنا نستحضر قولة المهاتما غاندي ” أريد أن تهب كل ثقافات الأرض قرب منزلي , بكل حرية إن

أمكن ذلك , لكني أرفض أن أنقلب من جراء رياحها العاتية”
لكن ماذا تفعل مع حداثة تحكم عليك مسبقا دون أن تصغي لك بأناة ؟ ” كيف السبيل إلى إسماع صوتك
وإقناع عالم متخم وأنت تنتمي إلى عالم جائع؟ لا مكان لصوتنا في عالم حديث ينمق الكلام، عندما
نكون مدفوعين إلى الجهر وإعلان اقتناعنا بفكرة مناقضة للأفكار الواردة والمقبولة في الغرب. “9
فمنطقك كذات من أهل الجنوب يتعارض تماما مع الحداثة المزهوة بنفسها و التي تقتلع كل

ما هو مخالف لها , مهما بدا مسالما .

ومعلوم أن التنمية بمختلف تجلياتها, أولا و قبل كل شيء, سواء كانت اجتماعية أو صناعية أو ثقافية أو

معرفية, تبقى ظاهرة ذاتية تعتمد بالأساس على المجهود الوطني الشيء الذي يتعارض كليا مع الحداثة

التي لا تعترف بالذوات. فكيف إذن بالمجتمعات العالمثالثوية أن تمارس فعاليتها ؟ و هي المحرومة

تعمدا من أسباب النجاح و التي أضحت سوقاً ومزبلة تستقبل منتجات الحداثة.

فكلما زاد الفكر الحداثي إمعانا في سلطة الدعاية العدائية التي تخلق “ذهنية موجهة ضد كل من يتحدث

بلغة أخرى غير لغة الرضوخ “المتعاون” مع الوصاية الثقافية والهيمنة السياسية الاقتصادية للغرب” 10

من خارج مجتمعنا من جهة و المتجسد في المحتل الرأسمالي المسيطر على الساحة، المستقر بسهولة

في بلداننا لنهب اقتصادنا, و من داخله من جهة أخرى و تتمثل هذه الفئة في “هؤلاء العُملاء، المنتدبون

في بلدانهم، المُرْتدون الأقنعة المحلية. 11″ كلما تمردت المجتمعات المقصية على العقلانية الصارمة و

الظالمة . و طفقت تبحث لها عن حداثة و طنية المنشأ تستمد آلياتها من فكرها و واقعها و تراثها .

“فالثقافات لا يمكن نقلها بشكل أعمى إلى مناطق أخرى من العالم , دون اعتبار لقيم هذه المناطق.

إن الثقافات لا تستنسخ”12

نريد ثقافة تنبني على مقومات الفرد المسلم في احترامه لقيمه الدينية و الإنسانية و قيم باقي المجتمعات

لا تصورا هجينا للذات و الفرد و العالم تماما كما تفعل و تعتقد الحداثة الظافرة الغربية *على حد

تعبير تورين* , التي تقدس قانون العقل الطبيعي، مما يفرض علينا كمسلمين التمرد ضد المقدس

الإلهي والكفر به و رفض مصادر الدين الكتاب والسنة والإجماع وماصدر عنها من عقيدة و

شريعة وأحكام موجهة للحياة البشرية .

حداثتنا تتجسد في خضوعنا لله عز و جل لا للصنم الذي نصبته الحداثة –العقل و العقلانية -
آمرة بذلك دول العالم كرها تارة و مماهاة تارة أخرى إلى عبادته وحده . و في ذلكم سلطة قمعية
تذكرنا بمحاكم التفتيش إبان القرون الوسطى , فالعقل وحده الهوية و الجوهر و الوحدة.

الخاتمة

إن الحداثة العقلانية رغم ادعائها و حملها لشعارات المساواة و الأخوة و العدل فإنها تضمر في ذات

الوقت لامعقولية صامتة , و حرية استبدادية , و ذاتية عمياء . لا يزعجها بؤس المستضعفين الذي

يظهر على شاشات التلفزة كل يوم .و اعتقادها بسيادتها الماحقة كدين جديد لكل باقي الأديان هو من

قبيل استيهاماتها .

فرغم كل ما فعلت و تفعل لم تستطع طمس معالم الثقافة العربية الإسلامية , فهي متجذرة في فكر و

سلوك الفرد العربي المسلم بإذن الله,

و بعدها و عدم اعترافها بمنظومة القيم الكونية و خصوصيات الأفراد و الشعوب يجعلها أعتى آليات

الإستكبار الإمبريالي .

“اعتقد انه ليس من المبالغة أن نقول , بأن مستقبل الإنسانية اليوم , رهين بدرجة الإعتبار الذي نعطيه

للروح الإنسانية , و بالإحترام المتبادل للقيم , تلك القيم التي تشكل أساس استمرار الحياة في ظل

الكرامة . و من ثمة , القيمة المتصاعدة للقيم في أيامنا العصيبة هذه , حيث أصبحت اللامبالاة بمعاناة

الآخرين أمرا مقبولا ” 13

الهوامش

.1 مقاربات في الحداثة و ما بعد الحداثة . حوارات منتقاة من الفكر الألماني المعاصر . ترجمة محمد الشيخ و ياسر الطائري . ص10
.2دار يوش شيغان , “تحولات و انقلاب”الحداثة , إعداد و ترجمة محمد سبيلا و عبد السلام بنعبد العالي دفاتر فلسفية , دار توبقال للنشر 1996 , ص19.
.3سلسلة ضفاف العدد 15. “إشكاليات الفكر المعاصر”ترجمة د. محمد سيبلا .ص189
.4د محمد سبيلا: دفاعا عن العقل و الحداثة . منشورات الزمن 2003. ص 8
.5مجلة عالم المعرفة. التربية و الحداثة. العدد .2003 -13ص14
.6التابث و المتحول. أدونيس
.7فن الشعر. أدونيس. ص76
.8مجلة عالم التربية. التربية و الحداثة. العدد .2003 -13ص14
.9الإسلام و الحداثة. الأستاذ عبد السلام ياسين
.10نفس المرجع
. 11نفس المرجع
.12قيمة القيم. المهدي المنجرة . ص.7
.13 قيمة القيم. المهدي المنجرة. 15. ص

___________________________________________

النظريات السكانية

بقلم :  إبراهيم بلوح

مقدمة

ظهرت العديد من النظريات السكانية في مراحل مختلفة تعود لمفكرين و باحثين ينتمون لمدارس معرفية عديدة تروم إبراز العلاقة بين السكان والموارد وكيفية التكامل بينهما وتدرس تطور حجم السكان من حيث معدل الخصوبة السكانية (متوسط عدد الأطفال لكل إمرأة) ومدى امكانية توقعه مستقبلا وكذلك معدل الوفيات والهجرة.

و لعل أبرز هذه النظريات التي عرفها القرن التاسع عشر والقرن العشرون هي نظرية مالتوس,  تلتها النظرية الإجتماعية و النظرية الطبيعية . فما هي مميزات كل نظرية؟

.1       النظرية المالتوسية

تعد هذه النظرية من أبرز النظريات السكانية التي عالجت العلاقة بين السكان والموارد وهي للإقتصادي روبرت مالثوس (1766-1834) في كتابه “تجربة حول قانون السكان”. وهي تنص على أن قدرة الإنسان على الإنجاب والتناسل أعظم منها على إنتاج ضروريات الحياة .

فقد رأى مالثوس أن قدرة السكان على التزايد أعظم من قدرة الأرض على انتاج وسائل العيش ويمكن صياغة ذلك حسابياً بأن تزايد السكان يتم وفق متوالية هندسية بينما لا تزيد وسائل العيش إلا وفق متوالية حسابية.

وفي سياق هذا التأويل الرياضي لنمو السكان ووسائل المعيشة تعد المجاعة مثلا بمثابة منظم طبيعي “ايجابي” حسب تعبير مالثوس للتوازن بين المواد الغذائية والسكان إذا لم يتخذ السكان اجراءات لوقف نموهم. واطلق على هذه الاجراءات ” المنظمات الاخلاقية للتوازن” ومنها الزواج المتأخر وضبط الشهوة الجنسية.

و قدتزامن ظهور النظرية مع اصطدام النظام الرأسمالي ببدايات مظاهر الأزمة التي عرفتها الثورة الصناعية. فأرجع مالتوس أسباب الأزمة المتمثلة في فقر الفلاحين والحرفيين وانتشار البطالة إلى الطبيعة الازلية البيولوجية وليس إلى طبيعة علاقات الإستغلال الإجتماعية كما فعل ماركس  .

وقد تعرضت النظرية المالتوسية على أمتداد القرن التاسع عشر والعشرين وإلى الآن إلى النقد الذي أثبت فشلها.

.2     النظرية الطبيعية

تعتقد النظريات الطبيعية  أو البيولوجية  أن السكان متغير مستقل ومن ثم توجد له قوانينه الخاصة التي تنظم تغيره وتتحكم في اتجاهات نموه. وهذا التيار يعتمد في رؤيته للمشكلة السكانية على نتائج التجارب العملية التي طبقت على بعض الحشرات والحيوانات والكائنات الحية الأخرى.

ومن أبرز الكتاب الذين ساهموا في هذا الاتجاه سادلر ودبلداي وسبنسر وجيني.

أ‌.      نظرية سادلرMICHAEL THOMAS SADLER

يعتقد صاحب النظرية أن زيادة السكان عملية بيولوجية تتحكم في نفسها بنفسها . فكلما زاد عدد السكان في بلد معين تتدخل هذه الأخيرة لحمايته من التضخم الزائد , عبر إنقاص القدرة التناسلية للفرد.

فالرجل يرى أن نقص عدد السكان و استقراره في نقطة معينة يتم في انتقال الإنسان من مرحلة بدائية إلى مرحلة أخرى أكثر تطورا إلى مراحل أرقى حيث تظهر بكل جلاء ظاهرة تقسيم العمل و تعم الراحة و الرفاهية.

ب‌. نظرية دبلدايTHOMAS DOULEDAY

يرى دبلداي أن النوع البشري في تعرضه للخطر, تبذل الطبيعة جهودا لحفظه و حماياته. حيث أن عدد هذا الأخير في تناقص مستمر داخل الطبقة الغنية و في تزايد داخل الطبقة الفقيرة , أما الطبقة المتوسطة فنسبة التوالد داخلها ثابتة.

فالأمة القادرة على إيجاد توازن بين الطبقتين الغنية و الفقيرة تتمكن من جعل عدد سكانها ثابتا .

و ما لم تستطع ذلك رغم الثراء و الرخاء فعدد سكانها يضمحل . و هذا هو القانون الحقيقي العظيم للسكان لدبلداي في علاقة السكان بالتغذية.

ت‌. نظرية سبنسرHERBERT SPENCER

لم يبن سبنسر نظريته على أساس التغذية و حدها كما فعل دبلداي بل على ما أسماه التنافر بين الذاتية و التوالد . فكلما أفرط الفرد في تأكيد وجوده قلت حظوظ الخلف. و يتجلى ذلك عند السيدات العاملات و المنتسبات للطبقة الغنية, فبالرغم من التغذية الجيدة التي يحظين بها إلا أن التأثير الذي يتعرض له تركيبهن العضوي يقلل من القدرة على الإنسال. بينما تتزايد نسبة الإنسال عند اللائي لم يتلقين تعليما عاليا و لم يعرفن نضوجا ذاتيا.

ث‌. نظرية جينيCORADO GINI

تنبني نظرية جيني على أساس طبيعة العلاقة بين المتغير السكاني و النظم الإقتصادية و السياسية و الثقافية . حيث أن التركيب السكاني بإمكانه تغيير التركيب الجنسي أو البيولوجي للمجتمع.

فالرجل يعتقد أن المجتمعات تتم في مراحل تكوينها بخصوبة مرتفعة تؤدي إلى ازدياد كثافتها , هذه الأخيرة تصاحبها اختلافات  في الأوضاع الإجتماعية مما ينتج عنه اختلاف كذلك في معدلات الخصوبة بين الطبقات . و عند الإكتظاظ السكاني للمجتمع يضطر جزء منه إلى الهجرة بطريقة سلمية أو مصاحبة بالحرب, التي تؤثر في عناصر واسعة من أفراد المجتمع.

ينتقل المجتمع فيما بعد إلى مرحلة ينقص فيها عدد السكان و الخصوبة , فتصعد الطبقات الدنيا إلى الطبقات العليا لملء الفراغ الذي خلفته هذه الأخيرة جراء نقص خصوبتها .  لتعم الرفاهية كل الطبقات

و ينتعش الإقتصاد و تزدهر الفنون و الآداب و الموسيقى.

كما يشير جيني إلى مرحلة أخرى يمر منها ذاتالمجتمع و هي مرحلة الإضمحلال التي تبدأ مع التقهقر الذي تعرفه الخصوبة من جهة و الهجرة من الريف إلى المدن من جهة ثانية , فيختل الإستهلاك مما يؤثر على الصناعة و التجارة , و يسبب في الأزمات الإجتماعية التي تؤدي إلى فناء المجتمع إما سلميا أو عن طريق الحرب.

إلا أن نظرية جيني لاقت انتقادات خصوصا من بتريم سوروكن الذي اعتبرها بنيت على أساس من تاريخ الرومان و اليونان و من ثمة لا يمكن تعميمها على كل المجتمعات.

.3النظرية الإجتماعية

تتجه النظرية الإجتماعية إلى رفض تأثير العامل البيولوجي بل تعتقد بوجود عوامل اجتماعية يتأثر بها السكان فتجعل الإنسان يحدد إنجابه ويتجه إلى الأسرة النووية وذلك باتباع وسائل تحديد النسل دون أن تتغير طاقته البيولوجية على الإنجاب. ومن أبرز روادها هنري جورج وديمون وكار سوندرز وكارل ماركس.

أ‌.      كارل ماركس CARL MARX

يقرر كارل ماركس في نظريته أنه لا وجود لقانون عام ثابت للسكان. فلكل مجتمع قانونه السكاني الخاص به. و يعتقد أن النظام الإقتصادي السائد في المجتمع هو الذي يتحكم في عدد السكان و ليست الخواص الثابتة في الطبيعة كما يعتقد أصحاب النظرية الطبيعية . فإذا ما تحول النظام الإقتصادي الذي يتتبع الطريقة الرأسمالية في الإنتاج  إلى نظام اشتراكي سوف لن تكون ثمة مشكلة السكان المتمثلة في التزايد و الفقر و البؤس.

ودليله في ذلك أن ميل الإنسان إلى الضغط على وسائل العيش راجع إلى مساوئ الرأسمالية التي يمكن أن تزول بعد زوال الطبقات وبناء المجتمع الشيوعي. إلا أن نظريته هي الأخرى تجاهلت العوامل الأخرى غير الإقتصادية التي تؤثر في النمو الحقيقي للسكان, مثل الزواج و الخلف و هي عوامل لا يمكن إغفالها مما يتعارض مع طبيعة البشرمن جهة , و ما تقتضيه الحياة الإجتماعية السليمة من حهة أخرى.

ب‌. نظرية أرسبن ديمونARSENE DUMONT

يرى ديمون أن الإنسان عندما يحاول الترقي في بيئته الإجتماعية من طبقة دنيارإلى طبقة عليا , يفقده هذا التقدم الإجتماعي القدرة على الانسال . فكلما كان المجتمع أكثر ديمقراطية و يسمح بترقي الأفراد في السلم الطبقي الإجتماعي , يجنح أفراده إلى عدم الإهتمام بالخلف و تكوين الأسر , لأن ذلك يؤخر أو يعيق طموحهم الشخصي و بالتالي يلاحظ نقص ملحوظ في نسبة المواليد.

بينما ترتفع هذه الأخيرة في المجتمعات ذات النظام الطبقي الجامد الذي لا يسمح بترقي الأفراد و اندماجهم في طبقات عليا , و بالتالي فهم يتفرغون لتكوين أسرهم و يعملون على تماسكها.

و الملاحظ  أن هذه النظرية لا تختلف كثيرا عن نظرية سبنسر التي طورها ديمون و أضفى عليها تعديلات. إلا أنها لا تخلو من القيمة من وجهة النظر الإجتماعية رغم كونها لا تفسر بشكل كامل هبوط نسبة المواليد.

ت‌. نظرية كار سوندرزALEXANDER M. CARR- SAUNDERS

يعتقد كارسوندرز أن الإنسان يحاول دائما أن يصل بحجمه إلى العدد الأنسب داخل مجتمعه , مستثمرا و مستغلا بيئته بكل ثرواتها الطبيعية و البشرية دون أن تؤثر زيادة عدده في المستوى اللائق للمعيشة ,

ويربط  زيادة عدد السكان بزيادة تفاعل الإنسان مع بيئته  و العكس صحيح, وهو برأيه هذا يخالف مالتوس الذي يقول بأن زيادة عدد السكان لا تتناسب مع موارده.

وما يؤخذ على هذه النظرية هو أنه ليس من السهل تحديد الطاقة أوالعدد الأنسب الذي يتحدث عنه كارسوندرز في المجتمع, لأن هذا الأخير تتعدد أشكاله من بسيط و مركب . كما أنه ليس من اليسير توقع الإتجاه الحالي و المستقبلي لتكوين المجتمع الإقتصادي فكيف يمكن تقييم موارد المجتمع لمعرفة عدده الأنسب؟

خاتمة

تختلف النظريات السكانية باختلاف المدارس المعرفية التي تروم مقاربتها. إلا أن الملاحظ أنه لا توجد ثمة نظرية تشكل قانونا عاما و ثابتا للسكان , فلكل عصر و لكل مجتمع قانونه السكاني الخاص به ينتج بالضرورة عن الظروف السائدة بالمجتمع.

إلا أن كل النظريات لا تخلو من القيمة العلمية التي تكشف عن جوانب مهمة من علم دراسة السكان.

——————————————————————————————–


___________________________________________

علم الاجتماع التربوي

بقلم : بلوح إبراهيم

مقدمـــة:

الإنسان كائن اجتماعي يعيش و يقضي معظم وقته في جماعة و في جماعات , يؤثر فيها و يتأثر بها , ويتحدد سلوكه الإجتماعي على أساس السلوك الإجتماعي المصطلح عليه.
و الفرد منذ ولادته وخلال نموه تطرأ عليه تغييرات جوهرية تشمل جوانب عديدة من شخصيته , فهو ينمو جسميا و فسيولوجيا , و ينمو عقليا , و ينمو انفعاليا , وينمو اجتماعيا .

و لعل الناحية الإجتماعية هي قطب رحى موضوعنا هذا , فمنذ طفولة الفرد تنمو لديه القدرة تدريجيا على إنشاء العلاقات الإجتماعية مع الآخرين. فهو يكتسب الأساليب السلوكية و الإجتماعية و الإتجاهات و القيم و المعايير و يتعلم الأدوار الإجتماعية , و هو يتعلم ما يصطلح عليه بالتفاعل الإجتماعي مع رفاق السن , و ينمو أخلاقيا و دينيا .

لذلك صار لزاما معرفة دوافع السلوك الإجتماعي بهدف تحديد علاقة الطفل بباقي رفاقه – رفاق الحي و المدرسة…- بغية فهم السلوك و وصفه , و التنبؤ به , و التحكم فيه… لنخرج بفهم و تفسير لحياتنا و حياة الآخرين , و كذا توجيه هذه الحياة توجيها صحيحا .

هنا يأتي علم الإجتماع التربوي ليمدنا بمادة معرفية جد مهمة لكل التساؤلات المعرفية و التربوية , فمسألة النشء مسألة جوهرية وهي ما يتناول علم الإجتماع التربوي بالبحث و الدراسة, و القياس الإجتماعي.
و تكمن أهمية هذا العلم في كونه يساهم في تحقيق هدف عام مشترك و هو توجيه النشء لما يسعده في حياته بتحقيق المزيد من الرضا و التكيف الإجتماعي مع نفسه أولا , و مع بيئته الإجتماعية التي يعيش فيها.

فما هو علم الإجتماع التربوي؟ و ماهي مجالات اهتمامه ؟ و إلى أي حد يمكن القول بأن علم الإجتماع التربوي ساهم إسهاما فعالا في ميدان التربية و التعليم ؟
و ما هي أشهر النظريات الحديثة في علم الإجتماع التربوي ؟ و ما هي يا ترى أهم المراحل و الأشواط التي قطعها هذا العلم الحديث ؟

تعريف علم الإجتماع التربوي:

علم الإجتماع التربوي وهو العلم الذي يدرس أثر العمل التربوي في الحياة الاجتماعية، ويدرس في الوقت نفسه، أثر الحياة الاجتماعية في العمل التربوي، أو هو العلم الاجتماعي الذي يدرس الظاهرة التربوية في مناحيها المتعددة، وفي إطار تفاعلها مع الواقع الاجتماعي. فهو علم قائم بذاته , و تم استخلاصه من علم الإجتماع العام . وهو علم حديث النشأة و فرع من فروعه يعمل على تطبيق المفاهيم و التصورات و المصطلحات الواردة في علم الإجتماع العام في جانب من أهم ميادين المجتمع و هو الجانب التربوي . يمكن القول إذن أن علم الإجتماع التربوي عبارة عن مزيج مختلط من كل من علم الإجتماع و التربية , و هو ” علم الإجتماع التربوي ” 1 . فالعملية التربوية جزء لا يتجزأ من المجتمع , و هي العملية التي تنشئ الإنسان القادر على تسيير أمور و قيادة التقدم الإجتماعي و خطط التنمية و تنفيذ مشروعاتها .
يهتم هذا الميدان من علم الاجتماع ببحث الوسائل التربوية التي تؤدي إلى نمو أفضل للشخصية، لأن الأساس في هذا الميدان هو أن التربية عملية تنشئة اجتماعية. لذا فإن علم الاجتماع التربوي يبحث في وسائل تطبيع الأفراد بحضارة مجتمعهم. والتربية أساساً ظاهرة اجتماعية، يجب أن تدرس في ضوء تأثيرها في الظواهر الاجتماعية الأخرى من سياسية واقتصادية وبيئية وتشريعية، وتأثيرها في المتغيرات الاجتماعية الأخرى من خلال عمليات التفاعل الاجتماعي. من هنا أكد الإجتماعيون ضرورة تحليل الدور الذي يقوم به النظام التربوي في علاقته بأجزاء البناء الاجتماعي الديموغرافية أو الاقتصادية أو السياسية، وعلاقته بمثالية المجتمع أو نظراته العامة والإيديولوجيات التي تفعل فيه.
ويحتل علم الاجتماع التربوي مكانة خاصة في البلدان التي تعيش مرحلة نقلة حضارية، إذ تجري مجموعة من التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، تلك التغيرات التي تستوجب إعادة النظر في مسائل التربية والتعليم وما يتعلق بها من ظواهر اجتماعية تواكب تلك التغيرات وتعمق جذورها .

مجالات اهتمام علم الاجتماع التربوي:

يهتم علم الإجتماع التربوي بمسائل مثل إيصال القيم الاجتماعية والثقافية والتربوية والدينية والوطنية إلى الطفل عن طريق النظام التعليمي، كما أنه يدرس المحددات الاجتماعية التي تؤثر في تقرير السياسات التربوية وأهداف النظام التعليمي، وكذلك تأثير المؤسسات الاجتماعية في النظام التعليمي، وتأثير العلاقة بين المدرسة والأسرة، في التحصيل المدرسي للتلاميذ، ودور النظام التعليمي في الحراك الاجتماعي، وأثر الأنماط الثقافية السائدة على النظام المدرسي، والتعلم عن طريق جماعات الأقران، والعلاقات بين أفراد تلك الجماعات، ودور التربية في إعداد الناشئة لسوق العمل، والتحليل الاجتماعي لبنية النظام المدرسي والعلاقات السائدة فيه، ودور النظام المدرسي بصفته أداة للسيطرة الاجتماعية والضبط، وإعادة إنتاج العلاقات الاقتصادية والاجتماعية السائدة، وتحديد الطبقات الاجتماعية المستفيدة من النظام المدرسي، والتي تطبعه بخصائصها اللغوية والثقافية، وأخيراً دور التربية في عمليات التحديث الاجتماعي.
و غني عن البيان أن علم الإجتماع التربوي يروم من خلال دراسته للحقل التربوي سبر أغوار العلاقة المعقدة بين الفرد و الجماعة من جهة و بين الجماعة و باقي الجماعات من جهة أخرى . كما يدرس علاقة المجتمع بالتربية و تأثير التربية فيه . فالدراسة ليست سهلة و ميسرة كما قد يبدو للبعض . لأن هناك عقبات تتضح و تظهر – الرواسب أو المخلفات التربوية – قد تمارس ضغوطات من شأنها أن تعرقل عمليات التنمية و التطوير .
كما يعمل علم الإجتماع التربوي من خلال تحليله لميدان التربية و التعليم محاولة تكريس مبدأ ” تكافؤ الفرص” حيث يجعل له معنى حقيقيا داخل الشق التربوي و ليس مجرد شعار يرفع هنا و هناك , و ذلك من أجل الترقي و الصعود في سلم الحراك الإجتماعي وفق استعدادات التلاميذ و ميولاتهم و قدراتهم و تمثلاتهم و طموحاتهم وليس وفق ما كونوه من مكانات موروثة .
فعلم الإجتماع التربوي , و باختصار يكرس جهده لفهم العلاقة بين التلميذ و المدرسة و المجتمع .
فهو يهتم بالنظام التربوي ككل متكامل بكل ما يضمه من مؤسسات تربوية و اجتماعية , أوجدها المجتمع بهدف تعليم أبنائه و تربية النشء في مختلف مراحل العمر السنية و كافة مراحل التعليم , و كذا الإهتمام بمختلف جوانب التلميذ المعرفية والوجدانية و الإنفعالية, و كافة ما يحيط بالمجتمع التعليمي من مشكلات و معيقات.

مراحل تطور علم الإجتماع التربوي:

ظهر هذا العلم نتيجة لجملة من التطورات الإجتماعية، منها توقع دور النظام التعليمي في ترسيخ الديمقراطية الاجتماعية والتربوية والحراك الاجتماعي عن طريق التحصيل المدرسي، وإعداد التلاميذ للحصول على فرص عمل، وتعزيز دور المدرسة في التنشئة الاجتماعية للطفل، و يقصد بالتنشئة الاجتماعية العملية التي عن طريقها يسعى الآباء إلى إحلال عادات و دوافع جديدة محل عادات ودوافع كان الطفل قد كونها بطريقة أولية في المرحلة السابقة . أو بعبارة أخرى هي العملية التي يهدف الآباء من ورائها إلى جعل أبنائهم يكتسبون أساليب سلوكية و دوافع وقيم واتجاهات يرضى عنها اﻟﻤﺠتمع وتتقبلها الثقافة الفرعية التي ينتمون إليها.

وتمثل أعمال إميل دوركهايم Émile Durkheim (1858-1917)، وماكس فيبر Max Weber (1864-1920)، وكارل ماركس Karl Marx (1818-1883)، المقدمات النظرية لولادة علم الإجتماع التربوي. وقد تجلى إسهام كل منهم في هذا المجال في كتبه، إذ كتب دوركهايم: «التربية والمجتمع» Éducation et sociologie و«التطور التربوي في فرنسة« Évolution pédagogique en France وأسهم كتاب ماكس فيبر «الأخلاق البروتستنتية وروح الرأسمالية» L’éthique Protestante et l’esprit du capitalisme في شرح التطور الاجتماعي الرأسمالي في أوربة الغربية، وعرض كارل ماركس الفكر الاجتماعي التربوي بشرح تأثير البنية التحتية، وأنماط الإنتاج وعلاقات الإنتاج، على البنية الفوقية كالبناء الثقافي والحقوقي للمجتمع والنظام التربوي والمدرسي السائد، كما ركز على أهمية الموازين الطبقية في العملية التربوية، وعلى قيم كل طبقة اجتماعية وتصوراتها. وانتقد تربية الأطفال بأساليب الإكراه في المجتمعات الرأسمالية.
ومهد هؤلاء الرواد لتطور علم الاجتماع التربوي، فقد بحث جاكار P.Jaccard في كتابه «علم الاجتماع التربوي» (1963) أفكار دوركهايم، كما درس كل من جيرار A.Girard وباستيد K.Pastide، أثر الانتماء الاجتماعي في قوة التحصيل المدرسي في بحثهما «حول الطبقة الاجتماعية،
وديمقراطية التعليم»، عام 1963، وكتب بول كلارك Paul Clerc حول «الأسرة والتوجيه المدرسي لتلامذة الصف السادس الابتدائي». ولعل أكثر الأعمال إثارة للاهتمام والجدل هي الدراسة التي قام بها كل من بورديو Bourdieu وباسرون J.C.Passeron بعنوان «إعادة الإنتاج:
حول نظرية نظام التعليم» La reproduction: pour une théorie du système d’enseignement وهي
دراسة تكشف عن أن النظام التعليمي السائد في فرنسا يعيد بناء العلاقات الإنتاجية القائمة على تعزيز السيطرة الاقتصادية للطبقات السائدة.
ولعل أبرز الأعمال المهمة التي صدرت في بريطانيا هو ما قام به فريد كلارك، حول «التربية والتغير الاجتماعي» الصادر في لندن عام 1940، محللاً تاريخ التربية في المجتمع البريطاني، وداعياً إلى توظيفها في خدمة الطبقات السائدة، واهتم باسيل برنشتاين Basil Brenstien عام 1975 بمسألة العلاقة بين اللغة والانتماء الطبقي، مبيناً أن لغة النظام المدرسي في بريطانية كانت وماتزال تعكس فكر الطبقات المتوسطة في المجتمع البريطاني. وقدمت مرغريت آرشر Margaret Archer في كتابها «الأصول الاجتماعية للأنظمة التربوية» Social Origins of Educational Systems الصادر في لندن عام 1967، تحليلاً للقوى الاجتماعية التي أثرت في تطور النظام المدرسي لخدمة مصالحها الاجتماعية والاقتصادية. وبين فرانك مسغروف F. Musgrove في كتابه «المدرسة والنظام الاجتماعي» School and Social Order الصادر في لندن عام 1968، دور المدرسة في تعزيز التفاوت الطبقي بين طلابها، ويؤكد كتاب مايكل دون المعروف باسم «التربية في بريطانيا» Education in Britain الصادر في لندن عام 1979 وفي الفصل المعنون باسم «التربية والفقر»، الحقيقة نفسها مبيناً أن النظام التعليمي في بريطانيا جعل الناس المستفيدين منه قادرين على تحسين ظروف حياتهم المعيشية.
وقام جون ديوي J. Dewey (1859-1952) بدراسات تربوية واجتماعية وخاصة في كتابيه «المدرسة والمجتمع» The School and Society عام 1899، و«الديمقراطية والتربية» Democracy and Education عام 1916 مبيناً أثر الحياة الاجتماعية التقليدية في العمل التربوي، وترك هذان الكتابان أثراً تربوياً كبيراً في الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت مؤلفاته إجمالاً مؤثرة في التربية والمجتمع العالمي بتركيزه على الخبرة والحرية والديمقراطية والتعاون بين التلاميذ وأبناء المجتمع. ويؤكد داتون S.T.Datun في كتابه «الجوانب الاجتماعية للتربية» عام 1900، ضرورة ربط التربية بخبرات الطفل الاجتماعية في المنزل والمجتمع المحلي. وكان لهنري سوزلو H. Suzzlo فضل استعمال تعبير «علم الاجتماع التربوي» في الولايات المتحدة الأمريكية أول مرة عام 1910 في جامعة كولومبية.

وفي المرحلة نفسها صدر أيضاً كتاب وليم هاولي سميث W.H.Smith «مدخل إلى علم الاجتماع التربوي»، الذي عرف هذا العلم بأنه «يستخدم نظرية علم الاجتماع وميادينه في دراسة قضايا التربية ونظرياتها وممارستها».

ويطلق البعض على جورج باين G.Payne، لقب «أبو علم الاجتماع التربوي» فقد أصدر نشرة علم الاجتماع التربوي عام 1928، التي أصبحت فيما بعد النشرة الرسمية للجمعية الوطنية لعلم الاجتماع التربوي التي تأسست عام 1923.
وفي الستينات والسبعينات من القرن العشرين حصلت أزمات اجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية بسبب البطالة والجريمة والصراعات العرقية، وصدرت مجموعة من الدراسات المهمة حول ديمقراطية التعليم، لعل أشهرها الدراسة المشتركة لكل من باول وجنتس Bowels- Gentis بعنوان «النظام المدرسي في أمريكة الرأسمالية» Schooling in Capitalist America الصادرة عام 1977، وكذلك دراسة إيفان إيليتش I.Iliych الشهيرة بعنوان «اللامدرسية» Deschooling. لقد حلل كل من باول وجنتس الطابع الطبقي للنظام المدرسي في الولايات المتحدة الأمريكية الذي يعزز فرص أبناء الطبقة الغالبة من الطلاب في النجاح الاقتصادي والمادي، في حين اهتم ايليتش ببيان مساوئ النظام المدرسي وطابعه القهري، ولذلك نعتها بهذه التسمية ودعا إلى التعلم الذاتي والتعلم عن طريق جماعات الأقران التعليمية، وكتب بعد ذلك عدداً من الكتب بالاتجاه نفسه مدعماً أقواله بتطور التقنيات ونظم المعلومات وتغيرها مما يؤدي إلى تغييرات اجتماعية وتربوية سريعة.
ويحلل باتريك فيتز Patrich Fitz في كتابه «التربية والحراك الاجتماعي في الاتحاد السوفييتي» Education and Social Mobility in the Soviet Union الصادر في لندن عام 1979، دور المدرسة السوفييتية في تمكين أبناء الطبقات الفقيرة من المجتمع السوفييتي من تحسين ظروف حياتهم المعيشية.
وأسهمت الدراسات الاجتماعية في دول العالم الثالث في الكشف عن مختلف أشكال القهر الاجتماعي والثقافي الذي تعرضت لـه مجتمعات تلك الدول في حقبة الهيمنة الاستعمارية، مما أدى إلى تعزيز تخلفها الثقافي والتربوي، ويمكن الإشارة هنا إلى كتاب فرانز فانون «معذبو الأرض» ودراسة ج. كابرال J.kabral «السلطة والإيديولوجية» Power and Ideology.
وقد بينت بعض الدراسات الصادرة في تلك المجتمعات مسؤولية الأنظمة المدرسية في عهود الاستعمار عن الأمية الواسعة التي خلفتها في تلك المجتمعات بعد استقلالها، وخاصة اقتصار تعليمها على نخب معينة كي تخدم في أجهزتها الإدارية، وكشف باولو فرايري Paulo Freiri زيف حملات محو الأمية الرسمية في مجتمعات أمريكة الجنوبية والطابع القهري لمضامين المقررات المعتمدة في تلك الحملات لمحو أمية الفقراء من سكان الأحياء الفقيرة في البرازيل، ودعا إلى «تعليم للكبار» قائم على توعية الدارسين في صفوف محو الأمية بحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية، وتعزيز ثقتهم بأنفسهم، مما يتيح لهم الإسهام في الإنتاج الاقتصادي والثقافي لمجتمعاتهم، والتخلص من هامشيتهم الاجتماعية.

ويتضمن كتابه «تربية المقهورين» Pedagogy of the Oppressed

وكتاب «التربية من أجل الحرية» Education for Freedom إشارات واضحة لتمكين الأميين الكبار من التحرر من دونيتهم الاجتماعية والثقافية.

صفوف محو الأمية بحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية، وتعزيز ثقتهم بأنفسهم، مما يتيح لهم الإسهام في الإنتاج الاقتصادي والثقافي لمجتمعاتهم، والتخلص من هامشيتهم الاجتماعية. ويتضمن كتابه «تربية المقهورين» Pedagogy of the Oppressed وكتاب «التربية من أجل الحرية» Education for Freedom إشارات واضحة لتمكين الأميين الكبار من التحرر من دونيتهم الاجتماعية والثقافية.
وانتشرت أفكار فرايري في أمريكة اللاتينية وبقية أرجاء العالم، ولذلك اختير رئيساً فخرياً لمؤتمر تعليم الكبار في العالم الذي عقد في جومتيان في تايلند عام 1990.

أشهر النظريات الحديثة في علم الإجتماع التربوي:

(التفاعلية الرمزية، والنظرية المعرفية(

إذا كان علم الإجتماع التربوي علم حديث النشأة و فرع من فروع علم الإجتماع العام
يعمل على تطبيق المفاهيم و التصورات و المصطلحات الواردة في جانب من أهم ميادين المجتمع و هو الجانب التربوي كما أسلفنا الذكر .
و يعمل على دراسته دراسة علمية، لذلك و حتى تتصف هذه الدراسة بالعلمية كان لابد أن تتسم ببعض المواصفات وهي:
- أن تنطلق من نظرية علمية،لها من الخصائص والشروط ما يؤهلها لتوسم بالعلمية،ولعل أهم شروط النظرية العلمية هي،الوضوح والدقة والإيجاز،والتفرد الذي يعني تجنب تكرار ما لايجب تكراره،وأن تتسم بالواقعية في صياغتها وطرحها،وقابلة للاختبار في الميدان،فضلا عن قدرتها على التنبؤ بمسار الوقائع والظاهرات.
ومن هنا يتجلى لنا مفهوم النظرية العلمية وهي كما عرفها عبد الباسط عبد المعطي:
“نسق فكري استنباطي متسق حول ظاهرة أو مجموعة من الظاهرات المتجانسة،يحوي-أي النسق- إطارا تصوريا ومفهومات وقضايا نظرية توضح العلاقات بين الواقع وتنظمها بطريقة دالة وذات معنى،كما أنها ذات بعد إبريقي بمعنى اعتمادها على الواقع ومعطياته،وذات توجيه تنبئي يساعد على تفهم مستقبل الظاهرة ولو من خلال تعميمات احتمالية”( )

فإذا كانت النظرية العلمية وصفية وتفسيرية في الأساس، فإن وظيفة النظرية التربوية-كما يقول بول هيرست – هي التشخيص والعلاج. وإذا كانت النظرية العلمية تحاول وصف وتفسير ما هو قائم، فإن النظرية التربوية تصف وتقرر ما ينبغي عمله مع الناشئة، وتوجه وترشد الممارسات التربوية. ( )

وتتسم النظريات التربوية بجملة من الأهداف تجعل لها أهمية مرموقة في دراسة الظاهرة التربية،ولعل من بين أهم هذه الأهداف مايلي:
1-دراسة الظواهر التربوية من حيث طبيعتها وما تتسم به من خصائص وسمات، والتي بفضل هذه الأخيرة تجعل منها موضوعا متميزاً لعلم الاجتماع التربوي.
2-التعرف على الوقائع الثقافية والاجتماعية والشخصية المرتبطة بالظاهرة التربوية في نشأتها وتطورها.
3- فهم طبيعة العلاقات التي تربط الظواهر التربوية بعضها ببعض، والتي تربطها بغيرها من الظواهر الاجتماعية في المجتمع.
4-الكشف عن أبعاد أو الوظائف الاجتماعية،التي تؤديها الظواهر والنظم التربوية بالنسبة للجوانب الاجتماعية والثقافية في المجتمع.
5- تحديد المضمون الأيدلوجي للتربية وآثاره على العمليات التربوية.
6- تحديد القوانين الاجتماعية العامة التي تحكم الظواهر التربوية وما يرتبط بها من وقائع اجتماعية وثقافية وشخصية.
7- تحليل التربية كوسيلة للتقدم الاجتماعي.
- بعدما قدمنا لمحة بسيطة عن تعريف النظرية وما تتسم به من شروط، وما الأهداف التي ترمي إليها، سوف نحاول في الأسطر القادمة أن نعرج على أهم النظريات الحديثة التي عالجت موضوعات وميادين خاصة بالتربية، ولعل أبرز ما نتعرض عليه من هذه النظريات هي:

أولاً: التفاعلية الرمزية Symbolic Interactionalism :

تعتبر التفاعلية الرمزية واحدة من المحاور الأساسيةِ التي تعتمد عليها النظرية الاجتماعية، في تحليل الأنساق الاجتماعية.
وهي تبدأ بمستوى الوحدات الصغرى (MICRO)، منطلقةً منها لفهم الوحدات الكبرى، بمعنى أنها تبدأ بالأفراد وسلوكهم كمدخل لفهم النسق الاجتماعي(1). فأفعالُ الأفراد تصبح ثابتةً لتشكل بنية من الأدوار؛ ويمكن النظر إلى هذه الأدوار من حيث توقعات البشر بعضهم تجاه بعض من حيث المعاني والرموز(2). وهنا يصبح التركيز إما على بُنى الأدوار والأنساق الاجتماعية، أو على سلوك الدور والفعل الاجتماعي.
ومع أنها ترى البنى الاجتماعية ضمنا، باعتبارها بنى للأدوار بنفس طريقة بارسونز Parsons ، إلا أنها لا تُشغل نفسها بالتحليل على مستوى الأنساق(3)، بقدر اهتمامها بالتفاعل الرمزي المتشكل عبر اللغة، والمعاني، والصور الذهنية، استنادا إلى حقيقة مهمة، هي أن على الفرد أن يستوعب أدوار الآخرين.
إن أصحاب النظرية التفاعلية يبدأون بدراستهم للنظام التعليمي من الفصل الدراسي (مكان حدوث الفعل الاجتماعي). فالعلاقة في الفصل الدراسي والتلاميذ والمعلم، هي علاقة حاسمة؛ لأنه يمكن التفاوض حول
الحقيقة داخل الصف، إذ يدرك التلاميذ حقيقةكونهم ماهرين أو أغبياء أو كسالى. وفي ضوء هذه المقولات يتفاعل التلاميذ والمدرسون بعضهم مع بعض، حيث يحققون في النهاية نجاحا أو فشلا تعليميا(4).

أشهر ممثلي النظرية التفاعلية الرمزية:

1) جورج هربرت ميد George H. Mead (1863-1931):

استطاع جورج ميد في محاضراته التي كان يلقيها في جامعة شيكاغو، على طولِ الفترة من (1894-1931) أن يبلور على نحو متقن، الأفكار الأساسية لهذه النظرية(5).
وقد جمع له تلاميذه كتابا بعد وفاته، يحتوي على معظم أفكاره التي كانوا يدونوها في محاضراته، تحت عنوان: (Mind, Self and Society, 1934).
ويبدأ ميد بتحليل عملية الاتصال، وتصنيفها إلى صنفين: الاتصال الرمزي، والاتصال غير الرمزي. فبالنسبة للاتصال الرمزي فإنه يؤكد بوضوح على استخدام الأفكار والمفاهيم، وبذلك تكون اللغة ذات

أهمية بالنسبة لعملية الاتصال بين الناس في المواقف المختلفة، وعليه فإن النظام الاجتماعي هو نتاج الأفعال التي يصنعها أفراد المجتمع، ويشير ذلك إلى أن المعنى ليس مفروضا عليهم، وإنما هو موضوع خاضع للتفاوض والتداول بين الأفراد(6).

2) هربرت بلومر H. Blumer (1900-1986):

وهو يتفق مع جورج ميد في أن التفاعل الرمزي هو السمة المميزة للتفاعل البشري، وأن تلك السمة الخاصة تنطوي على ترجمة رموز وأحداث الأفراد وأفعالهم المتبادلة. وقد أوجز فرضياته في النقاط التالية(7):
• إن البشر يتصرفون حيال الأشياء على أساس ما تعنيه تلك الأشياء بالنسبة إليهم.
• هذه المعاني هي نتاج للتفاعل الاجتماعي الإنساني.
• هذه المعاني تحوَّرُ وتعدّل، ويتم تداولها عبر عمليات تأويل يستخدمها كل فرد في تعامله مع الإشارات التي يواجهها.

3) إرفنج جوفمان ErvingGoffman (1922-1982):

وقد وجه اهتمامه لتطوير مدخل التفاعلية الرمزية لتحليل الأنساق الاجتماعية، مؤكدا على أن التفاعل – وخاصة النمط المعياري والأخلاقي- ما هو إلا الانطباع الذهني الإرادي الذي يتم في نطاق المواجهة، كما أن المعلومات تسهم في تعريف الموقف، وتوضيح توقعات الدور(8).
4) كما أن هناك عدداً كبيراً من العلماء الذين لم تناقش أعمالهم بشكل واسع، مع أنهم من أعلام ومؤسسي النظرية التفاعلية الرمزية. ومنهم:
• روبرت بارك Robert Park، (1864-1944). ووليم إسحاق توماس W. I. Thomas، (1863-1947). وهما من مؤسسي النظرية.
• مانفرد كون ManferdKuhn، (1911-1963). وهو عالم اجتماع أمريكي، ومن رواد مدرسة (آيوا) للتفاعلية الرمزية.
• وكذلك كل من ميلتزر Meltzer، وهيرمان Herman، وجلاسر Glaser، وستراوس Sturauss، وغيرِهم.

مصطلحات النظرية:

1. التفاعل Interaction: وهو سلسة متبادلة ومستمرة من الاتصالات بين فرد وفرد، أو فرد مع جماعة، أو جماعة مع جماعة.
2. المرونة Flexibility: ويقصد بها استطاعة الإنسان أن يتصرف في مجموعة ظروف بطريقة واحدة في وقت واحد، وبطريقة مختلفة في وقت آخر، وبطريقة متباينة في فرصة ثالثة.
3. الرموز Symbols: وهي مجموعة من الإشارات المصطنعة، يستخدمها الناس فيما بينهم لتسهيل عملية التواصل، وهي سمة خاصة في الإنسان. وتشمل عند جورج ميد اللغة، وعند بلومر المعاني، وعند جوفمان الانطباعات والصور الذهنية(9).
4. الوعي الذاتي Self- Consciousness: وهو مقدرة الإنسان على تمثل الدور، فالتوقعات التي تكون لدى الآخرين عن سلوكنا في ظروف معينة، هي بمثابة نصوص يجب أن نعيها حتى نمثلها، على حد تعبير جوفمان(10).
ثانيا: النظرية المعرفية في علم الاجتماع التربوي:
يعرف جورج غورفيتش علم اجتماع المعرفة على أنه: دراسة الترابطات التي يمكن قيامها بين الأنواع المختلفة للمعرفة من جهة، والأطر الاجتماعية من جهة ثانية(11). فعلم اجتماع المعرفة يركز على الترابطات الوظيفية القائمة بين أنواع وأشكالِ المعرفة، بحد ذاتها، ثم بينها وبين الأطر الاجتماعية، مما يكشف عن أن عصب المعرفة يكمن في وظائفها(12).
أما علم اجتماع المعرفة التربوي فيعرفه يونج M. Young على أنه: المبادئ التي تقف خلف كيفية توزيع المعرفة التربوية وتنظيمها، وكيفية انتقائها وإعطائِها قيمتها، ومعرفة ثقافة الحس العام، وكيف يمكن ربطها بالمعرفة المقدمة في المدارس، واعتبارها المدخل الحقيقي للتعليم(13).
وبناء على ذلك يهتم علم اجتماع التربية المعرفي بالبحث في الثقافات الفرعية داخل المجتمع، وعملية التنشئة الاجتماعية، وأثر ذلك على قيم الطفل واتجاهاته، ومستوى تحصيله الأكاديمي واللغوي. ويهتم أيضا بالبحث في طبيعة العلاقة المتبادلة بين التعليم والتغير الاجتماعي، وتحليل المدرسة كمؤسسة تربوية، معتمدا في ذلك على استخدام الأسلوب السوسيولوجي الدقيق Micro – SociologicalApproach(14).

مصطلحاتُ النظرية المعرفية:

1. نظم المعرفة: ويعنى بها أن المعرفة اجتماعية؛ لأن إنتاج المعرفة ليس عملا فرديا، وإنما هو عمل جماعي.
2. توزيع المعرفة: تأخذ المعرفة أشكالا هرمية تبعا لتدرجها في القيمة؛ لأن تميز بعض المعارف عن بعضها الآخر شرط ضروري لبعض الجماعات، وذلك لكي يكتسب المنتفعون منهم أهمية وشرعية لمكانتهم الاجتماعية العالية.
3. الموضوعية والنسبية: إن المعيار الوحيد للمعرفة هو تحسين الأوضاع الإنسانية، فالمعرفة القائمة على السياقات الاجتماعية جاءت لحل مشكلة الإنسان(15).
4. رأس المال الثقافي Cultural Capital: يعرفه بورديو على أنه: الدور الذي تلعبه الثقافة المسيطرة أو السائدة في مجتمع ما، في إعادة إنتاج أو ترسيخ بنية التفاوت الطبقي السائد في ذلك المجتمع.
ومن أشهر ممثلي النظريةِ المعرفية:
1. مايكل يونج M. Young:

الذي أَعلن مولد علم اجتماع المعرفة عام 1971، في كتابه: (علم اجتماع التربية الجديد). وهو يرى بأن علم اجتماع التربية التقليدي كله باء بالفشل؛ لأن الباحثين أخذوا المشكلات مأخذ التسليم على أنها مشكلات التربية الجديرة بالدراسة، من غير أن يحاولوا فحص قيمة تلك المشكلات نفسها، لتبين أهميتها بالنسبة للتربية. فالمدخل الحقيقي للإصلاح هو خلق المواقف المشكلة، وأن تضع المعرفة التربوية نفسها موضع الشك والتساؤل، فيتغير الجدل حول قضايا التربية، وتتولد نظريات خصبة، وبحوث جديدة في مجال البرامج الدراسية(16).
2. برونر J. Bruner:
الذي تزعم حركة العودة إلى الأساسيات Back – to Basic – Movement. إثر محاولات إصلاح التعليم، بعد أزمة سبوتنيك عام 1957م. وكان كتابه الشهير (العمليةالتربوية) The Process of Education. بمثابة إنجيل إصلاح المنهج في التعليم الابتدائي والثانوي.
ولب نظرية برونر هو الدعوة إلى تجديد البنية الأساسية للتعليم، مع المحافظة على الحواجز بين كل مادة وأخرى. وهو يعتمد على مسلمة مؤداها: أن كل الأنشطة العقلية في أي موقع من ميادين المعرفة هي واحدة، مهما تضخمت المعرفة أو تقلصت(17).

3. بيير بورديو:
إن المقولة الرئيسية التي بنى عليها بورديو نظريته، هي أن الثقافة وسط يتم به، ومن خلاله عملية إعادة
إنتاج بنية التفاوت الطبقي. ويستند بورديو في إثبات هذه المقولة وتحليلها إلى نظريتين، هما(18):
• مفهوم رأس المال الثقافي TheCultural Capital.
• مفهوم الخصائص النفسية The Habitus.
فالثقافة عند بورديو تفرض مبادئ بناء الواقع الاجتماعي الجديد، كما أنها –كأنساق رمزية- هي بمثابة رأس مال قابل للتحول إلى رأس مال اقتصادي أو اجتماعي أو أي شكل آخر من رؤوس الأموال المختلفة(19).
4. ومن ممثلي النظرية المعرفية في علم الإجتماع التربوي كل من:
فلود Floud، وهالسي Halsey، ومارتن Martin.

تعقيب

إن النظرية التفاعلية الرمزية، لا تقدم مفهوما شاملا للشخصية، فأصحاب النظرية وعلى رأسهم بلومر يقرون بأن هذه النظرية يجب ألا تشغل نفسها بموضوع الشخصية كما ينشغل بها علم النفس. وهذا سبب واضح، ومبرر جوهري على قلة الاستفادة من هذه النظرية في الميدان التربوي، على الرغم من وجود بعض الأبحاث القليلة المنشورة هنا وهناك.
كما أن التفاعلية الرمزية أغفلت الجوانب الواسعة للبنية الاجتماعية؛ لذلك نجدها لا تستطيع قول أي شئ عن ظواهر اجتماعية كالقوة والصراع والتغير، وأن صياغتها النظرية مغرقة في الغموض، وأنها تقدم صورة ناقصة عن الفرد.

أما فيما يتعلق بالنظرية الاجتماعية في علم الاجتماع، فيمكن القول بأنها المجال السائد حاليا في علم الاجتماع التربوي، وقد انفردت باسم: (علم الاجتماع التربوي الجديد)؛ لأنها جمعت بين أسلوب البحث الدقيق، باستخدام أسلوب الملاحظة، والملاحظة بالمشاركة داخل الغرفة الصفية، وبين أسلوب البحث الاجتماعي الواسع، الذي اشتمل على قضايا واسعةٍ كالقهر، والصراع، والتغير، والحراك الاجتماعي، ودور التربية في ذلك.
ولعل الدراسة التي قامت بها نيل كيدي Nell Keddie. في إحدى المدارس الإنجليزية، بعنوان:
“معرفة الفصل المدرسي” من بين الدراسات القليلة التي أجريت في إطار هذا الاهتمام بالمعرفة التي توجد لدى المعلمين حول تلاميذهم، ، وهي نموذج لاهتمامات علم إجتماع التربية الجديد.

خاتمة :
يحظى الفكر التربوي باهتمام كبير، كونه المنطلق الأساسي لتكريس قيم الأصالة في المجتمع والمرتكز الأهم في بناء مستقبل يحقق استثمارا أمثل لمعطيات الحاضر، مجسدا من خلال ذلك تطلعات الفرد والمجتمع على حد سواء، في إطار مشروع حضاري متكامل.
من هنا يبدو البحث في موضوع الفكر التربوي ، مرتبطا بالبحث في مضامين الفكر التربوي ، في ماضيه وحاضره، وفي اهتماماته وتطلعاته، وفي أساليبه وأغراضه،فالمجتمع محتاج إلى التربية،وخاصة أن التربية تهدف جملة ما تهدف إليه إلى تكييف الإنسان مع مجتمعه بما فيه من أنماط ثقافية وعادات مختلفة،وذلك باستفادتها من النتائج التي توصل إليها علم الاجتماع التربوي وتسعى إلى تطبيقها في الميدان، هذا الأخير الذي يدرس الأنشطة التي تقام داخل المدرسة ويرصد التفاعلات الاجتماعية والنفسية التي تتم داخل النسق التربوي في المؤسسة التعليمية ، كما يعكس تأثيرات المجتمع على المدرسة والتلاميذ والمدرسين ورجال الإدارة التربوية. و يعمل على تحليل أشكال الأنشطة التربوية، كأنشطة المدرسين والتلاميذ والإداريين داخل المؤسسة المدرسية. ويقوم بوصف طبيعة العلاقات والأنشطة التي تتم بينهم.

ولكن ما يتبادر للأذهان هو إلى أي حد يعمل علم الإجتماع التربوي على كشف الواقع السوسيولوجي المعاش في علاقته التفاعلية مع الواقع التربوي؟ خصوصا أمام اصطدامه مع ما تشهده المجتمعات من تغير في بنيتها وثقافتها،فهل باستطاعته أن يكشف عن بعد سوسيولوجي جديد للوقائع والظواهر الاجتماعية التي تحدث في عصرنا هذا؟ وهل نجح فعلا علم الاجتماع التربوي في تشخيص الظواهر التربوية و معالجتها بالشكل الذي يخدم مصلحة النشء ؟ أم صار مجرد أداة مسخرة في أيدي طيقة مسيطرة اقتصاديا تعمل على إنتاج نفس الطبقات الرمزية، أي أن المدرسة تعمل على إعادة نفس قيم الطبقة الحاكمة عن طريق تشريب أبناء الطبقات الدنيا نفس القيم الثقافية واللغوية للطبقة الحاكمة ؟ ومن هنا، فالفقراء لاينتجون عبر المؤسسة التعليمية سوى الطبقة البروليتارية، بينما البورجوازيون لايكونون سوى ورثة السلطة والجاه.

الهوامش

علم الإجتماع التربوي بين التأليف و التدريس د. فايز مراد دندش

عبد الباسط عبد المعطي: اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، عالم المعرفة، العدد44، الكويت، 1981م، ص10و31.

موقع اكتروني.www.ejtimay.com

حسان هشام: مدخل إلى علم الاجتماع التربوي، ط1، مطبعة النقطة، 2008م، ص16.
1 : فادية عمر الجولاني.(1997)، علم الاجتماع التربوي، مركز الاسكندرية للكتاب. ص215
2 . إيان كريب. (1999)، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة محمد حسين غلوم، عالم المعرفة، ع (244)، الكويت
3 إيان كريب. (1999)، المرجع السابق. ص131
4: حمدي علي أحمد. (1995)، مقدمة في علم اجتماع التربية، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية. ص180
5: علي عبد الرزاق جلبي. (1993)، الاتجاهات الأساسية في نظرية علم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية. ص237
6. فادية الجولاني. (1997)، مرجع سابق. ص216
7. إيان كريب. (1999)، مرجع سابق. ص132
8. فادية الجولاني. (1997)، مرجع سابق. ص218
9. علي عبد الرزاق جلبي. (1993)، مرجع سابق.
10 إيان كريب. (1999)، مرجع سابق. ص135
11 جورج غورفيتش. (1981)، الأطر الاجتماعية للمعرفة، ترجمة خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت. ص23
12 فاطمة بدوي. (1988)، علم اجتماع المعرفة، منشورات جروس برس. ص69
13 عبد السميع سيد أحمد. (1993)، دراسات في علم الاجتماع التربوي، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية. ص43
14 علي السيد الشخيبي. (2002)، علم اجتماع التربية المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة. ص67
15 عبد السميع سيد أحمد. (1993)، مرجع سابق. ص44-47
16 عبد السميع سيد أحمد. (1993)، المرجع السابق. ص43
17 عبد السميع سيد أحمد. (1993)، المرجع السابق. ص56
18 حسن البلاوي، التربية وبُنية التفاوت الاجتماعي الطبقي: دراسة في فكر بيير بوردو. 125
19 حسن البلاوي، المرجع السابق. ص127
————————————————————————————————————————————————————————————————

الأسرة
تعريفها- أهميتها و وظائفها
الأهمية النظرية لدراستها-
عوامل تغيراتها

بقلم: إبراهيم بلوح

تقديم

عرفت الأسرة بالمؤسسة الاجتماعية التي تنشأ من اقتران رجل وامرأة بعقد يرمي إلى إنشاء اللبنة التي تساهم في بناء المجتمع، وأهم أركانها الزوج، والزوجة، والأولاد.
وليس من شك في أنه كان و ما يزال لها الأثر الذاتي والتكوين النفسي في تقويم السلوك الفردي، وبعث الحياة والطمأنينة في نفس الفرد، فمن خلالها يتعلم اللغة ويكتسب بعض القيم والاتجاهات، وقد ساهمت الأسرة بطريقة مباشرة في بناء الحضارة الإنسانية، وإقامة العلاقات التضامنية بين الناس، ولها يرجع الفضل في تعلمهم لأصول الاجتماع، وقواعد الآداب والأخلاق، كما أنها السبب في حفظ كثير من الحرف والصناعات التي توارثها الأبناء عن آبائهم.
فهي عالمية أي موجودة في كل المجتمعات الإنسانية وان اختلفت أشكالها كما هو متعارف عليه في أدبيات الانثروبولوجيا.
كما أن ظهور علم الاجتماع الأسري ساعد على جعل الأسرة موضوعا خاصا ، موضحا كل وظائفها وأدوارها. كما ساهمت النظريات الاجتماعية التي تناولت الموضوع في تحليل وإغناء موضوع الأسرة.
فهل الأسرة وحدة اجتماعية بسيطة أم نظام مركب و معقد؟ و ما هي أهمية و وظائف هذا النظام ؟ ألا يتغير هذا النظام باعتباره الوحدة الإجتماعية الصغرى في المجتمع بتغير باقي الأنظمة الإجتماعية الأخرى كالنظام الإقتصادي أو السياسي أو الديني أو التعليمي…؟ ما هي يا ترى الأهمية النظرية التي تكتسيها هذه المؤسسة الإجتماعية في رحاب السوسيولوجيا ؟ و هل مازالت الأسرة في وقتنا الراهن تلعب دورها في الحفاظ على الجنس البشري تربية و إعدادا ليصير مواطنا صالحا يخدم الإنسانية أم أمست الأسرة مجرد مكان لإشباع الرغبات البيولوجية و الجنسية و لربما من قبيل التأتيث الإجتماعي؟
خصوصا و مجتمعاتنا الراهنة تشهد معضلات اجتماعية جمة و سلوكات انحرافية تدق ناقوس الخطر؟

تعريف الأسرة:

يجمع كافة العلماء و الباحثين على أن الأسرة هي أقدم المؤسسات الإنسانية و أكثرها شيوعاً.
و يذهب البعض منهم إلى اعتبارها السبب المباشر في الحفاظ على الجنس البشري و الإبقاء عليه حتى الآن .فلقد ظلت الأسرة التنظيم الأهم الذي ينشأ فيه معظم الناس و عند مرحلة معينة ينفصل البالغون عن الأسرة ليكونوا أسرهم الخاصة .
لكن ما يختلفون حوله هو تحديد تعريف جامع و وحيد للأسرة , نتيجة اختلاف المدارس و الإتجاهات التي ينتمون إليها . فمنهم من اعتبرها الجماعة الإنسانية التنظيمية المكلفة بواجب إستقرار وتطور المجتمع. و منهم من عرفها بأنها الخلية الأساسية في المجتمع وأهم جماعاته الأولية التي تتكون من افراد تربط بينهم صلة القرابة و الرحم و تساهم في النشاط الاجتماعي في كل جوانبه المادية و العقائدية و الاقتصادية…
وكما يعرفها كل من بيرجس ولوك في كتابهما “الأسرة” 1953 بأنها “مجموعة من الأفراد يربطهم الزواج والدم أو التبني يؤلفون بيتا واحدا ويتفاعلون سويا ولكل دوره المحدد كزوج أو زوجة,أب أو أم أو أخ أو أخت مكونين ثقافة مشتركة”1. وهذا ينطبق على ما يعرف بالأسرة النووية .و حسب جيري لي في كتابه “البناء الأسري والتفاعل” حيث عرف الأسرة- والتي اعتبرها عالمية –بأنها “تجمع إنساني عالمي وهي إما أن تكون على الشكل السائد الوحيد للعائلة وإما أن تكون كالوحدة الأساسية بوصفها جماعة فتتميز وظيفيا بشكل واضح وتتركب منها أشكال من العائلات أكثر تعقيدا وهي توجد في كل المجموعات المعروفة”2
و تعرفها سناء الخولي في كتابها ” الأسرة في عالم متغير” بأنها ليست وحدة اجتماعية بسيطة , و إنما نظام مركب و معقد , و هي تنظيم له بناؤه و وظائفه, و له أهدافه و ديناميته , و من ثمة تؤثر و تتأثر بالمناخ الأجتماعي و الإقتصادي و السياسي المتغير”3
من خلال التعاريف السابقة يمكن أن نقول أن الأسرة عبارة عن جماعة إنسانية تنظيمية مكلفة بواجب إستقرار وتطور المجتمع عبر التأثير في نمو الافراد واخلاقهم منذ المراحل الأولى من العمر
وحتى يستقل الإنسان بشخصيته ويصبح مسؤولا عن نفسه وعضوا فعالا في المجتمع.
كما تمارس وظائف مختلفة باختلاف المراحل الزمنية، والعصور التي تعاقبت عليها، وتختلف كذلك باختلاف البيئة الطبيعية والاجتماعية التي عاشت فيها.
فما هي وظائف الأسرة التي مارستها على مر العصور ؟

وظائف الأسرة :

إن استقراءنا لعلم الإجتماع و الأنتربولوجيا في دراستهما للنسق الأسري داخل المجتمع يحيلنا إلى خلاصة مفادها أنه من الصعب الحديث عن وظيفة تخص حياة الفرد أو عمله لم تدخل في نطاق و مسؤولية الأسرة , مما يعني أن الأسرة كانت تمارس أدوارا عدة تواجه بها متطلبات العيش و الضبط الإجتماعي.
فلقد تعددت وظائف الأسرة و اختلفت من حضارة إلى أخرى غير أنها ظلت في جميع المجتمعات تمثل الوسط الذي يتم فيه إنجاب الأولاد و يوفر لهم الحماية و الأمن و يعلمهم عادات مجتمعهم و تقاليده بما يمكنهم من التأقلم معه و تقبل ما فيه من أفكار و ثقافة. و للأسرة دور اقتصادي هام حيث توفر الدعم الاقتصادي لأفرادها من خلال وظائف أو أعمال يمارسها بعضهم و يتم تقاسم العائد منها مع أفراد الأسرة من غير المنتجين.

:الوظيفة الإقتصادية –
لعبت الاسرة القروية و البدوية القديمة دور المحرك الإقتصادي الذي يمد الحضر بمتطلبات العيش و عملت على تسويق منتجاتها. بينما كانت الأسرة الحضرية مستهلكة اكثر من كونها وحدة منتجة, وهذا لا يقل أهمية – في نظر الباحثين- من منظور المجتمع ككل عن وظيفة الإنتاج.
لكن خلال تعرض المجتمع إبان منتصف القرن التاسع عشر للتغيرات الهامة التي برزت نتيجة التقدم العلمي و التكنولوجي, و تحول المجتمع من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي أفرز أنماطا جديدة لطرق و مستلزمات العيش, لم تعد الأسرة القروية تحقق اكتفاءها الذاتي اقتصاديا , حيث غزتها الخصائص الحضرية و شرعت تعتمد على المدن في متطلبات عيشها و تسويق المنتجات التي انحصرت في تربية الدواجن و صناعة الألبان. بينما أصبحت الأسرة الحضرية تمارس وظيفة الإنتاج المتعدد التخصصات و في نفس الوقت تستهلك كل ما يتناسب و طبيعة حياتها الحضرية.
و عموما , يمكن القول أن الأسرة باختلاف أشكالها تشكل وحدة متكاملة وظيفيا تساهم في البناء الإقتصادي من خلال و ظيفتي الإنتاج و الإستهلاك.

- الوظيفة النفسية :
تحتل الوظيفة النفسية مكانة قوية وحاسمة في ترابط النظام الأسري . فكلما كانت المشاعر والاتجاهات

حاضرة يكون التوافق والانسجام وتتحدد كفاءة الأداء الوظيفي بمختلف جوانبه.
في حين أن غيابها يخلف وراءه مشاكل نفسية و تربوية تنعكس على سلوك الأفراد مما يجعلهم غير قادرين على الإنضباط الإجتماعي و بالتالي يلقى بهم ليكونوا عالة على المجتمع.

-التنشئة الاجتماعية :
تشرف الأسرة على تربية أطفالها تربية صحيحة في ظل التعاليم الأخلاقية الفاضلة، والتي تساعد على دعم المجتمع باللبنات الصالحة التي تساهم في بناءه، والصعود به إلى مراقي الكمال. وقد أكد علماء الاجتماع على ضرورة ذلك وأكدوا أن الأسرة مسؤولة عن عمليات التنشئة الاجتماعية التي يتعلم الطفل من خلالها خبرات الثقافة، وقواعدها في صورة تؤهله فيما بعد لمزيد من الاكتساب، وتمكنه من المشاركة التفاعلية مع غيره من أعضاء المجتمع.
و ذلكبأن تشيع في البيت الاستقرار، والود والطمأنينة، وإن تبعد عنه جميع ألوان العنف والكراهية، والبغض، فإن أغلب الأطفال المنحرفين والذين تعودوا على الإجرام في كبرهم، كان مرد ذلك عدم الاستقرار العائلي الذي آلت له أسرهم.

-وظيفة التربية والتعليم:
من المعلوم أن الأسرة تشكل الحقل الأول و الأساسي الذي من خلاله يلقن الآباء الابناء العديد من القيم و التعلمات , بالإشراف على تعليم أطفالهم و متابعتهم في المذاكرة و الواجبات المنزلية .
فعلى الرغم من نشوء المؤسسات التعليمية في العالم، إلاّ أن الأسرة تبقى هي المعلم الأول لمن تنجبه من الأبناء. بل إن تقدم أو تأخر الأطفال في التحصيل له علاقة وطيدة بالوقت الذي يقضونه مع أطفالهم. فكلما منحوا وقتا اطول لأبنائهم في مساعدتهم على التمدرس و التعلم كلما أتت النتائج إيجابية.

الأهمية النظرية لدراسة الأسرة :

تعتبر الأسرة الخلية الأساسية في المجتمع وأهم جماعاته الأولية ، وتتكون من افراد تربط بينهم صلة القرابة و الرحم يساهمون في النشاط الاجتماعي في كل جوانبه المادية و الروحية و العقائدية و الاقتصادية…
و لما كانت الأسرة بهذه الأهمية و الانتشار و الأدوار المتعددة المتطورة و المتغيرة و التي سبقت دور الدولة في تأمين الاحتياجات العاطفية و المادية و المعنوية للأفراد, فإنه يمكن القول بأن أفضل السبل نحو بناء المجتمع هو البدء من اللبنة الأولى و الأهم في البناء الاجتماعي و الاقتصادي و الإنساني ألا و هي الأٍسرة..

و نظراً للأهمية البالغة، والمكانة الرفيعة التي تحتلها الأسرة في المجتمع البشري، فقد كانت ولا تزال محط اهتمام الكتاب والباحثين، الذين أولوا جل اهتمامهم للأسرة وقضاياها، وحل المشاكل التي من شأنها أن تقف حاجزا في طريق الأسرة لتحول بينها وبين الهدف الذي تروم الوصول إليه.
فالأسرة هي احدى العوامل الأثيرة في بناء الكيان الإنساني، وتسهيل عملية التطبيع الاجتماعي.
ولقد تعددت الدراسات والأبحاث حول الأسرة ، منطلقة في معظمها من وصف طبيعتها وتحديد مفاهيمها ووظائفها داخل المجتمع وأجمعت جل الدراسات ، على كون الأسرة تنظيما اجتماعيا ، له سلطة على أفراده ، إذ يتحكم في سلوكهم اليومي وفي روابطهم الاجتماعية. كما يوجه كل اختياراتهم، بل يحكم ويحدد مصيرهم الاقتصادي . إلى جانب ذلك، اهتمت دراسات أخرى بالأسرة كخلية اجتماعية ، تقوم بالإنجاب وتزويد

المجتمع بالأفراد . ” و النقطة الأساسية التي تثير اهتمامنا هنا أن علم الإجتماع هو العلم الذي يتميز عن غيره في دراسة الأسرة في حد ذاتها و ذلك بتحليل بنائها و عملياتها, و
النظر إليها كجماعة إنسانية في الوقت الذي يركز على دراسة التفاعل الجمعي الذي هو بمثابة الجوهر الحقيقي للحياة الأسرية,مما يؤيد الإتجاه السوسيولوجي في دراسة الأسرة”4
و جدير بالذكر أن علم الاجتماع الأسري ، جعل الأسرة موضوعا خاصا له ساهمت النظريات الاجتماعية التي تناولته في تحليل وإغناء موضوع الأسرة .
فتحول بذلك اهتمام الباحثين من القضايا التاريخية للأسرة ، إلى تناول مجالات قوتها ، وأسباب وعوامل تفككها ، وعلاقاتها بنظام القرابة . مما أسهم في فهم الأحداث والوقائع الأسرية في إطار هذا التخصص . وقد ساهم هذا التنوع والتباين في مقاربة الأسرة و تثوير دراساتها ، وفي تشخيص أوضاعها . كما أعطى دفعة في تنوع نظريات علم الاجتماع الأسري ، إذ لم تعد النظرية أو المقاربة الوظيفية وحدها المسيطرة والمفسرة لقضايا الأسرة ، بل ظهرت إلى جانب ذلك البنيوية ، والتفاعلية الرمزية …

التغيرات التي طرأت على الأسرة:

و غني عن البيان أن التكنولوجيا أمست واقعا حقيقيا في حياة الإنسان و المجتمع , كونها تمارس أدوارا مهمة و أساسية اجتماعية و اقتصادية و تقنية , و تدخل ضمن الأدوات و المقتنيات التي
يتطلع الفرد و الجماعة إلى استهلاكها اليومي . و من ثمة باتت تؤثر داخليا و خارجيا على الأسرة و تساهم في التغير الإجتماعي.
” و ما من شك ان تأكيد النظرة التكاملية إلى بناء الأسرة أو إلى وظائفها يؤدي إلى القول بأن تأثير التكنولوجيا عندما تمس جزءا أو وظيفة من وظائف الأسرة , فإنه خليق بأن يؤثر في الأجزاء أو الوظائف الأخرى عن طريق التتابع أو الإنتشار” 5.
و لقد أرجع كثير من العلماء و الباحثين التغير الذي طرأ على الأسرة جراء التصنيع المطرد حيث يرى ماركس أن اثر التصنيع على الأسرة يكون هداما و يؤدي بها إلى التفكك و الإنهيار.
مما أدى إلى انقسام الأسرة الممتدة وبروز نمط الأسرة النووية التي أصبحت تتحدد في الوالدين و الأبناء . كما أن سرعة التصنيع و التحضر الذي عرفته شعوب كثيرة و خاصة إبان القرن التاسع عشر مما أدى إلى هجرة أعداد كبيرة من السكان القرويين و نتج عن ذلك تفكك الأسر الممتدة الفقيرة التي لا تستطيع أن تتحمل تيار التصنيع الجارف . بينما تتمكن الأسر الغنية من الحفاظ على امتدادها عبر تسخير السياسة و الإديولوجيا للمحافظة على الأوضاع الإقتصادية محاولة بذلك أن تحمي مصالحها من كل تدخل قد يضر بهذه الأخيرة .
و يمكن أن نحدد بعضا من تأثيرات التكنولوجيا و حركة التصنيع على الأسرة في ما يلي:
ـ إنتقال المجتمع من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي يهدم روابط الأسرة بالأرض و يصبح أصحابها مجرد مأجورين يعتمدون على عملهم و يفقدون لملكيتهم للأرض , بالإضافة إلى نوع السكن بالمدينة الذي لا يتسع إلا للأسرة النووية, فلم يعد هناك مكان لباقي أفراد العائلة.
ـ لم يعد الأب المعيل الوحيد للأسرة , حيث أصبح الأبناء يعملون هم أيضا و يتحررون من سلطة الأب مما قد يفرز تنشئة اجتماعية لم يعد الأب فيها المتحكم الوحيد. كما أن عمل المرأة هو الآخر ساهم في التأثير على العلاقات الأسرية.

ـ إقتصار الأسرة النواة على العلاقة المباشرة مع أقارب و والدي الزوج و الزوجة , فلم نعد نتحدث عن أبناء العمومة و أبناء الخؤولة.
ـ بعد مكان العمل عن المنزل , يضطر معه رب الأسرة أو ربة الأسرة أو هما معا إلى قضاء وقت أطول في المواصلات و بالمقابل قضاء وقت أطول خارج البيت مما يعود سلبا على تقوية العلاقة الأسرية و تماسكها .

و يمكن تلخيص ادعاءات بعض علماء الإجتماع عن أثر التصنيع و التكنولوجيا الحديثة على الأسرة في عدة نقاط , من بينها أن التصنيع هو السبب في ظهور الأسرة النواة , و في نقصان حجمها و تدعيم عزلتها , و القضاء على الروابط القرابية. ” فالأسرةهي المرآة التي تعكس صورة التغير الإجتماعي على المجتمع , و ذلك عندما تتبنى مجموعة من الأسر شيئا جديدا ( تكنولوجي أو إيديولوجي ) فإنه بمجرد ظهور فائدة هذا الشيئ تتبناه بالتدريج الأسر الأخرى حتى يشمل المجتمع بأسره”6

خلاصة

كانت الأسرة في الماضي وحدة اقتصادية مكتفية ذاتيا تقوم باستهلاك ما تنتجه, وباستمرار التغير والتطور في كافة المجتمعات تقلصت وظائف الأسرة بل فقدتها في بعض الأحيان وظهرت المؤسسات والتنظيمات المختلفة كبديل عنها, مما يؤثر تأثيرا أساسيا في طبيعتها و مكانتها في الإنوجاد
الإجتماعي. ومع ذلك ما تزال الأسرة تحتفظ ببعض الوظائف .
لكن ألا يمكن اعتبار الوظائف التي بقيت للأسرة هي الوظائف الاكثر أهمية و التصاقا بطبيعتها الحقة؟
ألا يجوز الإعتقاد بأن هذا التغيير الذي طرأ على الأسرة يحمل في ثناياه مكاسب للمجتمع من قبيل التخصص و تزايد المؤسسات و الهيئات مما يخلق تمايزا و حراكا اجتماعيين الأسرة في حاجة ماسة له و هنا نشير إلى الأسرة اليابانية و تماسكها بالرغم من التصنيع و التكنولوجيا؟
أليس بمقدورنا الجزم بأن التفكك الأسري الذي اعتبر انحلالا ليس إلا ضربا من التكيف لمتطلبات الإقتصاد الصناعي و الحفاظ على التوازن المستمر للأسرة وذلك ما يعتقده تالكوت بارسونز؟
و من ثمة فإن كثيرا من الباحثين في علم الإجتماع يحسون بحاجة متزايدة على المستوى النظري و التطبيقي إلى مزيد من الدراسات الأسرية خاصة و أنها تواجه اليوم تغيرات اجتماعية و ثقافية و تكنولوجية تتزايد بسرعة , لما لهذه الدراسات من أهمية أثيرة في فهم و تصحيح كثير من المقولات و المفاهيم في علاقتها بأنساق المجتمع المختلفة.

الهوامش

1- بيرجس ولوك كتاب “الأسرة” 1953
2- جيري لي كتاب “البناء الأسري والتفاعل”
3- ص.3 د سناء الخولي. الأسرة في عالم متغير
4- ص.11 د سناء الخولي . الاسرة في عالم متغير
5- د.سناء الخولي . ص. 35 الأسرة في عالم متغير
6- د.سناء الخولي . ص. 35 الأسرة في عالم متغير


———————————————————————————————————————————————————————————————-

هكذا تحاور بورديو…

بقلم : بلوح إبراهيم

مقدمة:

إن السوسيولوجيا تتأسس علميا و موضوعيا على ” الإجتماعي” . هذا الأساس الذي ترتكز عليه في حركة ذهاب و إياب بين العدة النظرية و المعطيات الميدانية , حيث أنها لا تفصل بينهما فكلاهما يكمل الآخر.
و الحال أن العدة النظرية بدون ميدان – تعتمل فيه الوقائع و الظواهر الإجتماعية- عمياء, و الواقع بدون عدة نظرية أجوف.
لذلك فالسوسيولوجيا ممارسة ميدانية بامتياز, تقتضي عملية الهدم و البناء مع المحافظة على الصرامة و الدقة العلميتين و خصوصية الواقع.

غير أن السوسيولوجيا لا تدعي لنفسها الفهم الدوغمائي و النهائي للتجربة الحقلية , و بالتالي فهي قادرة على طرح بديل للهشاشة و الأعطاب المجتمعية . بقدر ما تضع نفسها على عتبة الفهم , فهي مجرد خطوة أولى على طريق الفهم و التفسير.
تحاول مقاربة الفعل الإجتماعي و اكتشاف الثابث و المتحول داخل المجتمع عبر استدماج و استلهام فهم خاص للممارسة السوسيولوجية.
إلا أن بلوغ هذا المرمى يقتضي خارطة طريق يتتبعها عالم الإجتماع حتى يتمكن من ملامسة المعنى و استقرائه دون السقوط في الذاتية و الرضوخ للإجابات الجاهزة , فمهمة عالم الإجتماع – على حد قول بورديو- هي تفجير السؤال النقدي عبر التمكن من منطق العلاقات و الأدوار و المؤسسات المجتمعية و إضفاء معنى منطقي على تحولاتها و ثباثها .

و لعل أسلوب الحوار يظل أحد المقاربات المشترطة في عالم الإجتماع حتى يستطيع فهم الجماعات الإنسانية في صيغ انوجادها و تشكلاتها و صيغ ارتباط الفرد بها . يشير إميل دوركهايم في كتابه ” قواعد المنهج الإجتماعي” على أن الإجتماعي لا يمكن تفسيره إلا بالإجتماعي . فالحوار و المساءلة يظلان المورد الأساس الذي يعطي للسوسيولوجيا المعنى و المبنى المعرفي .

فهل باستطاعة عالم الإجتماع إصاخة السمع و التقاط تفاصيل التفاصيل عبر أسلوب الحوار؟ بل ما هي شروط الحوار و أدواته أولا؟ و كيف يرى العلاقة بينه و بين المستجوب؟ و هل باستطاعته القطع مع الحس المشترك و مع الخيميائي الذي يسكنه؟ و ما المعايير و المبادئ التي يستند عليها التحقيق و الحوار السوسيولوجيين؟ ألا يحمل الحوار في حد ذاته عنفا رمزيا اتجاه المستجوب خصوصا و أن كل سؤال ينبش في ذاكرة المستجوب الخاصة؟

أسلوب في الحوار

في كتابه ” بؤس العالم” la misère du monde عن منشورات ” لوسوي ” le Seuil بباريس و هو كتاب ضخم و مرجع سوسيولوجي أثير لا غنى عنه في قارة السوسيولوجيا عمد بيير بورديو و آخرون – ما ينيف على عشرين باحثا اجتماعيا- في أحد أهم فصول الكتاب إلى اعتماد أسلوب الحوار و التحقيق مع مختلف الشرائح الإجتماعية الفرنسية حتى يتمكن من تحديد مظاهر العسر التي يعاني منها المجتمع في فرنسا بمختلف مكوناته البشرية -حتى المهاجرين منهم و الأجانب- .

قضى بيير بورديو عقودا عديدة في إجراء حوارات و تحقيقات سوسيولوجية , منهجسا بمعرفة تفجير السؤال النقدي لفهم و تعرية الظاهرة الإجتماعية , يشرح و يفكك النسق العام بعيدا عن الوصفات الجاهزة و الركون إلى المقاربات الكسولة . فولدت لديه هذه العقود خلاصة مفادها أن الممارسة السوسيولوجية يجب أن تكون على أعلى مستوى من الحذر و الإحتياط من مغبة الوقوع في المعرفة المعدة و المطبوخة سلفا أو الإنصهار العاطفي و الشعوري بين مجري الحوار و المجرى معه الحوار خصوصا و أن الباحث يثقل كاهله العبء الرمزي الذي يمارسه عليه التاريخ , فهو ينتج تاريخه ببحثه المضني عن الهوية و الإنتماء , و هو بذلك لا محالة ساقط في لعبة التاريخ و التأريخ .

و الجدير بالذكر أن ثمة علاقة تقوم أثناء الإستجواب بين المستجوب و المستجوب . هذه العلاقة التي لا يمكن توقع مجراها و لا نتائجها , فهي تمثل حقل تأثير و تأثر بين سوسيولوجي ليس بالضرورة مصلحا اجتماعيا و لا ينفعل وجدانيا مع ظاهرة العسر و العطب الإجتماعي , يدرس الحقل بحذر إبستمولوجي كبير و بحياد و برود كبيرين , و بين مستجوب يعيش الأزمة تتعالى زفراته و سخطه . أتراه قادرا على التعبير عما يعتمل داخله ؟ وهل بمقدوره الكشف عن ذلك و التعبير عنه بشكل يمكن المحقق من فهم وتحليل الظاهرة ؟
أم سيفضل الصمت لأن هناك أسبابا خفية قد تمنعه من قبل الخصوصية أو الخوف من الآخر أو فوبيا تعرية الذات إلى غير تلك من الأسباب المعقدة و المتعددة بتعدد المستجوبين ؟

كل هذه الإلتواءات و المطبات الفكرية و الميدانية المعقدة دفعت ببورديو إلى إقامة مقاربة معرفية علمية لا علموية مادتها احتياطات منهجية و علمية و عدتها البراديغم السوسيولوجي الصارم .
هذا الأخير الذي يعبد الطريق الملكي نحو الفهم , فمهمة المحاور- الباحث السوسيولوجي- مهمة نضالية لا تقتنع بالحوارات الكسولة و المطمئنة و لا تقف عند حدود الجاهز و اليقيني .

و تجدر الإشارة إلى أن أول قاعدة اشترط بيير يورديو أن تتوفر لدى الباحث السوسيولوجي القائم بالمحاورة أو التحقيق تتمثل فيما أسماه بالإنعكاسية Réflexivité , و التي تقضي بأن يمارس قواعد حرفته و مبادئها القيمية على عمله نفسه . وشدد على ضرورة تحليله لعمله و خطابه و نشاطه تحليلا انعكاسيا ) ذاتيا (. و بعبارة أخرى عليه أن يستعمل حواراته و تحقيقاته و ما توصل إليه ليغربل دوره و ليكشف العوامل الناتجة عن تاريخه الشخصي و تطبعه و التي قد تؤثر على ممارسته العلمية و تشوش رؤيته للمجتمع . ولذلك أصبح مفهوم الإنعكاسية في نظر بورديو شرطا أساسيا لكل عمل نزيه و موضوعي في مجال العلوم الإجتماعية . و الحال أن هذا الشرط من شأنه ان يخلق لدى الباحث السوسيولوجي نوعا من ردة الفعل الدائمة و الحاضرة المؤسسة على تمرس مهني و على عين سوسيوبوجية ثالثة تكشف ما هو مخفي و ليس ما هو ماثل أمامه , تتيح له إمكانية السيطرة على مجريات الحوار و على البنية الإجتماعية التي ينشدها الباحث و يتحقق في حقلها الحوار المرغوب المفضي إلى تحليل اجتماعي عميق لدلالات الاجابات .

فكيف باستطاعة الباحث السوسيولوجي إذن تطبيق باراديغمه الصارم على عمله نفسه؟ و ما السبيل إلى بناء حوار بعيد عن كل المؤثرات التي تحول دون الفهم الكامل للعطب و مظاهر العسر؟

كما أسلفنا الذكر تنشأ ثمة علاقة بين المستجوب و المستجوب , هذه الأخيرة التي تطرح أكثر من علامة استفهام , إذ تترك لا محالة آثارا على المستجوب و على رؤيته الشخصية للحوار في عموميته , جدواه و ضرورته . خصوصا و أن الحوار أو التحقيق المراد إنجازه لكشف مكامن العطب و العسر اللذين يعاني منهما غالبا ما يعتبره تسللا إلى عالمه الشخصي.
و الحال أن الباحث هو الذي يعمل على مد جسر التحقيق و الحوار متخذا في ذلك البناء قواعده الخاصة و كيفيات حواره بشكل أحادي دون تفاوض مسبق و معلن بين الطرفين , مما يشكل تجاوزا أو عنفا رمزيا قد يمارس على المستجوب .

و لعل اختلاف المستوى الثقافي و اللغوي – الرساميل الرمزية- و المكانة الإجتماعية أو المهنية المتميزة التي قد يشغلها المحاور تزيد من صعوبة عمله كباحث سوسيولوجي .
لذلك صار لزاما عليه إصاخة السمع الممنهج و الفعال و الإنصات لدقائق الأمور لفهم منطقها الداخلي و لإعطائها المعنى المفترض بعيدا عن عفوية الحوار غير الموجه و عن التسلط و الإعداد المسبق للأجوبة و التي غالبا ما يحيل المحاور المحاور عليها بشكل من الأشكال و كأنه بذلك يضعها له في فمه عبر أسئلة موجهة و مقدمة سلفا تحمل في ثناياها الجواب ذاته.

ووعيا من الباحث السوسيولوجي بأهمية الحوار و دوره في الكشف عن المخفي المجسد للعطب الإجتماعي , يرى بورديو أن المحاور عليه أن يلم بالوضع الكلي للتحقيق و المحاورة عبر محاولة الدخول إلى عالم المستجوب بتبني لغته و خطابه و تاريخه الخاص إن أمكن , مما يمكن من إحداث نوع من التكيف Adaptation يقحم المحاور في وجهات نظر و مشاعر و أفكار المحاور.
إن الباحث السوسيولوجي مدعو الآن إلى تعديل ممتلكاته اللغوية و الرمزية بشكل يمتزج و ممتلكات المستجوب . و من هنا يطرح بورديو سؤالا و مهما و أساسيا , من يحاور من؟

و للإجابة على هذا السؤال طلب بورديو من العاملين إجراء الحوارأو التحقيق مع أناس يعرفونهم هم أنفسهم من قبل . فلنعكس الصورة لنتلمس الحقيقة . فلنتصور جدلا أن باحثا سوسيولوجيا فرنسيا قام بهذا التحقيق مع مستجوب من المهاجرين العرب مثلا , و أن هذا الأخير تختلف ممتلكاته اللغوية و الرمزية كليا أو جزئيا عن ممتلكات المستجوب -علما أن كل الباحثين أجمعوا على أن حصر انتباه المحاور باستمرار و جرد المعلومات و الأجوبة التي قد تكون متسرعة, مزيفة, غامضة… من الصعوبة بما كان- ترى هل ثمة فرصة كاملة وسانحة لإجراء الحوار عبر قناة غير مشفرة , بمعنى أن الباحث سوف لن يجد أدنى صعوبة في استصغاء زفرات وآهات و تعابير و لغة المحاور على اختلاف الممتلكات ؟ يبدو أن المهمة هنا تبدو صعبة.

من هنا تطفو عبقرية بورديو على سطح الممارسة السوسيولوجية حيث أوكل محاورة العمال العرب و أبناءهم مثلا لباحثين اجتماعيين مغاربيين يعيشون في الحي نفسه , و تربطهم علاقات جوار أو صداقة تمتد لسنوات . هذا التقارب يجعل المحاور يتكلم بأريحية و بدقة لأن المستجوب منحه قبلا و بعدا تلك الضمانة على عدم تعرية البواعث الذاتية و الشخصية للمحاور. مما يجعل الطرفان على وفاق و تلاؤم يعطي لكل جزئيات الحوار أهمية بالغة من قبيل العلامات اللفظية , الإشارات , الأخطاء اللغوية , تعابير الوجه… وهذا كله يساعد إلى درجة كبيرة في دراسة الأجوبة و تفاصيلها عند الفراغ من الحوار.

و الحال أن المستجوب يجد نفسه منخرطا بشكل طواعي في الحوار باعتباره عاملا أثيرا في عملية البناء النظري لبداية و نهاية التحقيق . فالحوار الناجح في نظر بورديو هو الذي يتكون عير سلسلة من الحوارات المضنية المقيدة بالبراديغم الصارم , و ليس ذاك الذي يتسارع البعض إلى إنجازه عبر لقاء أو إثنين ظانين أن الحظ حالفهم من أول وهلة .
بعد ذلك تأتي الخطوة التالية حيث يتم تسجيل الحوار و تحريره , و هنا تبرز حنكة و حرفية بورديو في التوثيق . فالرجل كان يؤمن بالكتابة , بل و حتى الكتابة التي تسجل الإنفعالات و الأحاسيس و الإيماءات … ذلك كله لتوفير أعلى شروط المقروئية الممكنة للتحقيق السوسيولوجي باعتباره لحظة تواصل أصيلة .

خاتمة :

إن الباحث السوسيولوجي يفترض فيه أن ينشئ سلسلة حوارات تواصلية دون مطبات أو عوائق . عبر وضعيات بعيدة عن تفاوت الممتلكات اللغوية و الرمزية , وضعيات تسمح للمستجوب بالتعبير عن مظاهر العطب و العسر و الخلل الذي يعاني منه داخل المجتمع , وضعيات مشجعة على انبثاق حوار استثنائي و فعال. آنذاك يمكن أن نتحدث عن انعقاده انعقادا سليما يمكننا من اعادة اكتشاف “الحقيقة” الاجتماعية من منابعها الاصلية ومن أصولها التي ترجع اليها باستمرار من دون زيف أو تحوير .

———————————————————————————————————————————————————————————————-

نظرية العنف الرمزي
عند بيير بورديو

بقلم : بلوح إبراهيم

التعريف بعلم الإجتماع

يؤكد »ريمون آرون « أحد المشتغلين بعلم الإجتماع في فرنسا أن علم الإجتماع يتميز بأنه
دائم البحث عن نفسه , وأن أكثر النقاط اتفاقا بين المشتغلين به هي صعوبة تحديد علم الإجتماع كما
أورد »بيتروم سروكين «في مؤلفه »النظريات السوسيولوجية ا لمعاصرة « عام 1928 آراء أكثر من ألف عالم وباحث في علم الاجتماع ,الأمر الذي يجعل من الصعوبة تحديد من نجح منهم في تعريف علم الإجتماع ومع التسليم بوجود تباينات كثيرة ارتبطت بتحديد العلم وموضوعه , فهي تباينات فرضتها طبيعة العلم في نشأته وتطوره حيث تأثر بجماع الأطر اﻟﻤﺠتمعية والفكرية التي أحاطت به, بما في
ذلك الدين والفلسفة والعلوم الطبيعية , كما تأثر بطبيعة التغيرات التي طرأت ولا تزال تواصل تأثيرها
على اﻟﻤﺠتمع الإنساني, و بمجمل الظروف الإجتماعية والثقافية التي أحاطت بكل رائد من رواد العلم,
وجعلته ابتداء يرتبط في خبرته بمجتمع دون غيره. زد على كل هذا حالة ا لنهج العلمي في كل فترة من
الفترات التاريخية التي مر بها العلم.

وهذه مؤثرات لم يكن تأثيرها وقفا على علم الإجتماع, أو على أي علم آخر دون غيره من العلوم الإنسانية أو حتى الطبيعية.
والذي يجدر بنا التركيز عليه في هذا المنحى أنه رغم هذه التباينات فإن ثمة نقاطا أساسية

تمثل ولو هيكلا عاما يتحرك من خلاله علم الاجتماع , و يتحدد به موضوعه الأساسي وهو هيكل يشير إلى:

إن علم الإجتماع هو علم دراسة الإنسان واﻟﻤﺠتمع , دراسة علمية, تعتمد على ا لمنهج العلمي ,
وما يقتضيه هذا ا لمنهج من أسس وأساليب في البحث.
وهذا البعد الأساسي في التعريف يعد حصاد تطورات علم الإجتماع منذ أن ولد على يد العلامة العربي
»ابن خلدون « الذي حدده بأنه علم العمران البشري , وما يحويه هذا العمران من مختلف جوانب الحياة الإجتماعية ا لمادية والعقلية ومرورا بأوجيست كونت A.Comte الذي اشتق كلمة sociology من مقطعين من اللاتينية واليونانية ليشير بهما إلى الدراسة العلمية للمجتمع.

أما إضافة »الإنسان « إلى التعريفين اللذين وردا من خلال هذين الرائدين واللذين مازالا موضوع محاكاة كثيرين ممن كتبوا بعدهما , فذلك لأن الإقتصار على ر بط العلم باﻟﻤﺠتمع جعل الكثير من الكتاب والباحثين يكتبون في موضوعات وقضايا أخرى كثيرة ,أضاعت وقتهم , وأخرجتهم عن موضوع العلم وقضاياه , ومن ثم كتبوا في اﻟﻤﺠتمعات الحيوانية وما شابه ذلك من موضوعات , والاهم من ذلك أن التركيز على كلمة »اﻟﻤﺠتمع « وحدها جعلت الكثير من النظريات تنظر للمجتمع نظرة جعلته فوق الإنسان , فأهدرت الإرادة الإنسانية , وطلبت من البشر التكيف مع العالم المحيط , وهم في هذا يكادون يشبهون اﻟﻤﺠتمع بالبيئة الطبيعية.

وقد يرى البعض أن التعريف السابق للعلم وتحديده بدراسة الإنسان واﻟﻤﺠتمع يجعله يتداخل مع فروع أخرى من فروع العلوم الإنسانية وبالتالي يطرح سؤالا:
ما الذي يميز هذا العلم عن غيره من هذه العلوم؟
وبتحليل المحاولات اﻟﻤﺨتلفة التي عنيت بقضية علاقة علم الاجتماع بغيره من العلوم يتبين لنا انه إذا كان كل علم من العلوم الإنسانية يدرس جانبا أو اكثر من جوانب الإنسان أو اﻟﻤﺠتمع , فإن علم الإجتماع يدرس اﻟﻤﺠتمع ككل في ثباته وتغيره , ويدرس الإنسان من خلال علاقته باﻟﻤﺠتمع , أي أنه أكثر شمولا من أي من العلوم الإنسانية . وليس معنى ذلك أن دراسة كل العلوم تعادل دراسة علم الإجتماع, ذلك لأن الواقع الإنساني ليس مجرد جمع بسيط لأجزائه .
وهنا يمكن أن نذكر مثالا تشبيهيا توضيحيا كثيرا ما يتردد لتوضيح الفرق بين علم الإجتماع وغيره من العلوم .
فالمركب الكيميائي للماء يشير إلى تكونه من أيدروجين وأوكسجين لكل خصائصه

ا لمتميزة ,أما عندما يتفاعلان سويا فإنهما ينتجان ا لماء الذي له من الخصائص ما يختلف جذريا عن كل من الغازين ا لمذكورين.

وبنفس منطق المقارنة يدرس كل علم من العلوم الإنسانية جانبا من الإنسان واﻟﻤﺠتمع , كالإقتصاد وعلم النفس… الخ .

أما علم الإجتماع فيدرس حصاد تفاعل العلاقات بين هذه الجوانب من ناحية وبينها و بين الإنسان من ناحية ثانية. وإذا كانت دراسات العلوم الأخرى لا تغني عن دراسات علم الإجتماع, بل تفيد منها ,
فبنفس القدر لا تغني دراسات علم الاجتماع عن هذه العلوم بل هي تفيد منها وتعمق من نتائجها مما يساعد في النهاية على إقامة وحدة فكرية شاملة حول الإنسان واﻟﻤﺠتمع ,
ماضيا, وحاضرا , وتوجها نحو مستقبل مقصود ومرغوب فيه .

و جدير بالذكر أن علم الاجتماع تأثر كغيره من العلوم بظاهرة التخصص التي برزت بصورة واضحة مع انتشار الحركة الصناعية وتقدم البحث العلمي فتشعبت اهتماماته وتعددت ميادينه، وأخذ كل منها يتناول جانباً من جوانب الحياة الاجتماعية.
و تتحدد ميادين علم الاجتماع وتتعدد تبعاً لنوع المتغيرات الاجتماعية المتنوعة والمتداخلة معها، ولقد
أصبحت الميادين في علم الاجتماع تنوف على ثلاثين ميداناً منها السياسي والبدوي والحضري والريفي وغير ذلك.

ميادين اشتغال علم الإجتماع
يهتم علم الاجتماع Sociology بدراسة المجتمع وما يسود فيه من ظواهر اجتماعية مختلفة دراسة تعتمد على أسس البحث العلمي بغية التوصل إلى قواعد وقوانين عامة تفصح عن الارتباطات المختلفة القائمة بينها.
ويتضح مما سبق أن موضوع علم الاجتماع هو المجتمع الإنساني، وأن ما تطرحه الجماعات الإنسانية من ظواهر ومسائل اجتماعية هي مجال الدراسات الاجتماعية، ويقوم علم الاجتماع بدراسة تلك الجماعات من حيث هي مجموعات من الأفراد انضم بعضهم إلى بعض بعلاقات اجتماعية تختلف عن الفئات الإحصائية التي تشير إلى أفراد لارابط بينهم.

وعلم الاجتماع، من هذا المنظور، يسعى إلى معرفة الحياة الاجتماعية، عن طريق الحصول على بيانات صادقة من الواقع الاجتماعي بوسائل وأدوات تتطور مع تطور العلوم ذاتها، فالعلم مجموعة من المعارف و طريقة للعمل على حد سواء، والظواهر الاجتماعية تخضع للبحث العلمي الدقيق إذا ما اتبع في دراستها منهج علمي يماثل في أسسه ومنطقه ما هو معتمد في مجالات علمية أخرى.
فدور علم الإجتماع المفترض هو اكتشاف شروط إنتاج و إعادة إنتاج ” الاجتماعي ” ، أي التمكن من منطق العلاقات و الأدوار و المؤسسات المجتمعية ، و إضفاء معنى منطقي على حركاتها و سكناتها ،و هكذا مطمح علمي لا يكون إلا باستدماج و استلهام فهم خاص للممارسة السوسيولوجية ، فالبحث عن منطق ” الاجتماعي ” لا ينكتب إلا بتفجير الأسئلة ، ألم يقل بيير بورديو أن مهمة السوسيولوجي هي تفجير السؤال النقدي ؟
فالعصف التساؤلي هو الذي يعبد الطريق نحو هذا المنطق المبحوث عنه ، و هو الذي ينتقل بالباحث من مستوى المقاربات الحدسية إلى عمق الأشياء و شروط انبنائها الأولية ، و يقوده نهاية إلى المهمة التكسيرية للسوسيولوجيا ، و ذلك في مساءلتها الخاصة و النوعية للظواهر و التحولات المجتمعية ، فموضوع السوسيولوجيا كما يقول آلان توران ” ليس ما هو ماثل أمام أعيننا ، بل ما هو مخفي باستمرار.”

مهنة عالم الإجتماع

وهكذا يعالج الباحث في علم الاجتماع الأفعال الاجتماعية ذات المعاني المشتركة، والأشكال التي تتخذها العلاقات المتبادلة في الحياة الاجتماعية، بقصد البحث عن الظواهر والنظم الاجتماعية والكشف عن المبادئ التي تحدد طبائعها، ليصل الباحث الاجتماعي إلى مقارنة البيانات الإحصائية من جوانبها المختلفة وفي أوقات متعددة، وبذا تتضح له معالم الحياة الاجتماعية والوقائع الاجتماعية، ويتعرف النظم السائدة، فيمكنّه ذلك من إصدار الأحكام والقواعد والقوانين العامة التي تخضع لها تلك الظواهر.
و يشير بول باسكون إلى أن ” عالم الاجتماع هو ، و ينبغي أن يكون ، ذاك الذي تأتي الفضيحة عن طريقه ” فالسوسيولوجي وفقا للطرح الباسكوني لن يكون غير مناضل علمي يفكك و يحلل و يدرس كافة التفاصيل المجتمعية من أجل فهم الظواهر و الأنساق ، بما يعني ذلك من قطع مباشر مع التواطؤ و التلاعب ، و ما يعني أيضا من مراهنة أكيدة على الكشف و الفضح المستمر لما يعتمل في العمق من حالات اختلال أو اتساق .
و بذلك تصير السوسيولوجيا أداة علمية للقراءة و الفضح في آن ، تقرأ التحولات الاجتماعية ، و تموضعها في سياقها الخاص قبل العام ، و في ذلك كله فضح و تعرية لشروط الانبناء و الانوجاد ، أليست السوسيولوجيا مجرد علم يبحث في شروط إنتاج و

إعادة إنتاج الاجتماعي ؟

التعريف ببييربورديو

يعد “بيير بورديو” (2002 – 1930) عالم الاجتماع الفرنسي الشهير وأحد أبرز الأعلام الفكرية في القرن العشرين. يحتل مكانة مميزة في حقل الدراسات الإنسانية. شهد علم الاجتماع على يديه إبداعا علميا رائعا، وتجديدا فكريا حقيقيا في المصطلحات والمضامين والدور والأهداف. فقد أحدث الرجل في تحليله للظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية تغييرا في حقل الدراسات الثقافية والأبحاث الاجتماعية النقدية وفي مفهوم علم الاجتماع نفسه. لقد هال الجميع إنتاجه الفكري الغزير والمتميز، واطلاعه الواسع، وإرادته القوية والشجاعة في تطبيق الأفكار والمبادئ التي نادى بها في أعماله الفكرية وتصميمه الحاسم على ترجمتها إلى سلوك ومواقف وممارسات عملية من خلال مشاركاته ومداخلاته الشخصية في المظاهرات والحركات الاجتماعية والسياسية.
كان (بورديو) مفكرا فذا،عالمي الثقافة، وانساني التوجه ومن أبرز المثقفين المناضلين في تاريخ النضال الاجتماعي والسياسي والثقافي في القرن العشرين. لقد انخرط (بورديو) في معمعة الفكر العالمي الجياش وشارك عمليا في حراك مجتمعه وكون لنفسه رؤية خاصة في الشأن الفرنسي خصوصا وفي الشأن الإنساني عموما وراح يكتب بحماس ملتهب وبغزارة جارفة. وقد أكسبته هذه الرؤية العميقة الواسعة وذلك النضال الفاعل مكانة عالمية وجعلته نموذجا رائعا للإقدام في الفكر والفعل.
درس بورديو الفلسفة في مدرسة المعلمين العليا في باريس ونال فيها شهادة الأستاذية في الفلسفة في عام 1954م. وكان (جاك دريدا) الفيلسوف الفرنسي الشهير من الذين تخرجوا في نفس الدورة. أطلع بورديوعلى أعمال (ماركس) (وجان بول سارتر) وفي الوقت الذي كان المذهب الوجودي يطغى على الأوساط الفلسفية، توجه بورديو نحو دراسة المنطق وتاريخ العلوم ثم تابع حلقة دراسية في التعليم العالي حول فلسفة الحق عند هيجل. ولكن، بعد تجربة قصيرة له كأستاذ في إحدى الثانويات، دعي من قبل المكتب النفسي للجيوش في مدينة فرساي ولكن لأسباب تأديبية أرسل بسرعة إلى الجزائر في إطار إحلال السلام حيث أدى هناك القسم الأساسي من خدمته العسكرية. ومن 1958الى1960م تمنى أن يتابع دراساته عن الجزائر. فدرس في كلية الآداب في الجزائر واهتم بالدراسات الأنثروبولوجيية والاجتماعية وكتب بعد عودته إلى فرنسا مباشرة كتابا بعنوان (سوسيولجيا الجزائر). ثم أصدر كتابا آخر بعنوان (أزمة الزراعة

التقليدية في الجزائر). وبدأ يدرس الفلسفة في السوربون ثم أصبح مديرا لقسم الدراسات في مدرسة الدراسات العليا، ثم مديرا لمعهد علم الاجتماع الأوربي، كما انتخب عام 1982م لكرسي علم الاجتماع في «الكوليج دو فرانس»وهي أعلى هيئة علمية في فرنسا. وكانت محاضرته الافتتاحية في «الكوليج دو فرانس» بعنوان “درس في درس” وقد جال فيها بجدارة في ميادين النقد الاجتماعي والسياسي والتربوي والنفسي وختمها بالتحذير من ظاهرة التسامي الزائف التي تنشأ عن إساءة استخدام المعرفة. وهكذا ظل يدرس ويحاضر فيها لغاية عام 2001م.
كان بيير بورديو على موعد مع الشهرة مبكرا بعد إصداره كتاب (الورثة) بالاشتراك مع (جون كلود باسرون) ولكن تألق نجمه مع ثورة الطلاب عام 1968م التي جذبت وركزت أنظار المجتمع الفرنسي ووسائل الإعلام على الجامعة والنظام التعليمي.
ومن المفاهيم الأساسية التي استخدمها بورديو في تحليله: «إعادة الإنتاج» و«الحقل» و«رأس المال الرمزي» و« العنف الرمزي» و«العرف» و«الانعكاسية».
إذا كان بورديو قضى شطرا من حياته في البحث الاجتماعي وتحليل الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فقد كرس السنوات الأخيرة من حياته المعرفية والعملية في العمل النضالي السلمي والمشاركة السياسية الفاعلة ضد الأشكال الجديدة من السلطة السياسية والاقتصادية.
وأصدر في هذه المرحلة مجموعة كتب قيمة أذكر منها: (بؤس العالم) و(علل عملية. في نظرية الفعل) و(عن التلفزيون) و(تأملات باسكالية) و(السيطرة الذكورية) و(البنيات الاجتماعية للاقتصاد) و(علم العلم والانعكاسية) و(تدخلات.العلم الاجتماعي والعمل السياسي) و(توطئة لتحليل ذاتي).
يرى بورديو أنه ليس جديا أن نفكر في السياسة دون أن نتحلى بتفكير سياسي، ولا يمكن فهم ظاهرة ما دون تحليل بنيتها والآليات التي تحكمها وتعمل وفقا لها. وفي رأيه أن تحليل الواقع الاجتماعي ونقده يساهم في تغييره.
تعود علاقة بورديو بالسياسة إلى فترة حرب الجزائر ويرى الرجل أن العلوم الاجتماعية لا تستحق الاهتمام إن لم تكن في خدمة الإنسان والمجتمع وان لم تكشف آليات الهيمنة السائدة في المجتمع. يقول بورديو في كتاب (إعادة الإنتاج): من المفهوم أن علم الاجتماع كان مرتبطا جزئيا بالقوى التاريخية التي كانت تحدد طبيعة علاقات القوى التي يجب الكشف عنها في كل حقبة من حقب التاريخ. المشكلة السياسية الخاصة كانت تلك المتعلقة بنشر الأعمال العلمية المتقدمة التي تسمح بفهم وتقدير أكثر

ديمقراطية بقدر المستطاع للنتائج التي يتوصل إليها علم الاجتماع (في مقابل البحوث العملية التي تتم حسب طلب الهيئات والمؤسسات الحاكمة التي تستخدم العلوم الاجتماعية من أجل أن تتحكم بشكل أفضل وتهيمن بفاعلية على الخاضعين لهيمنتها). ولم يكن من باب المصادفة صدور كتاب بؤس العالم في عام 1993م قبل الانتخابات الفرنسية.هذا الكتاب الضخم هو ثمرة سنوات من العمل البحثي الكبير الذي شارك فيه عشرات من الباحثين الذين عملوا بالتعاون الوثيق مع بورديو وقد كان الهدف الأساسي منه الكشف عن المعاناة الاجتماعية الناتجة عن سياسة الليبرالية الجديدة . لازلت أذكر شخصيا كيف لاقى هذا الكتاب اهتماما إعلاميا كبيرا في فرنسا جعل من بورديو شخصية عامة ومؤثرة.
ثم اصدر بعد ذلك سلسلة من الكتب تدور موضوعاتها حول قضايا سياسية ساخنة وكان الهدف من ورائها دفع الدراسات التي تقوم بها العلوم الإنسانية إلى ميدان النضال السياسي. ومن أجمل كتبه كتابه الرائع عن التلفزيون. حلل بورديو فيه حالة وسائل الإعلام وهاجم التلفزيون وأعتبره جهازا مدمرا لأنه يستخدم مخزن النظام الرمزي ليشيع خطرا كبيرا في ميادين الإنتاج الثقافي والفني والأدبي والعلمي والفلسفي والقانوني، كما انه يشيع خطرا لا يقل عن ذلك للحياة السياسية والديمقراطية، وكذلك يشيع التفاهة في المشاهدين ويقدم ثقافة سريعة حسب تعبيره.
و لعل من أبرز ما ألف بورديو هذه النفائس: (سوسيولوجيا الجزائر)، و(الورثة.الطلبة والثقافة)، و(إعادة الإنتاج.أصول نظرية في نظام التعليم)، و(التمييزـ التميز.النقد الاجتماعي لحكم الذوق)، و (الحس العملي)، و(ما معنى أن نتكلم.اقتصاد التبادلات اللغوية)، و(درس في الدرس)، (ومسائل في علم الاجتماع)، و(الإنسان الأكاديمي)، و(الانطولوجيا السياسية عند مارتن هيدغر)، و(منطق الممارسة)، و(إجابات. من أجل إنسيات انعكاسية)، و (قواعد الفن)، و(بؤس العالم)، و(علل عملية. في نظرية الفعل)، و(عن التلفزيون)، و(تأملات باسكالية)، و(السيطرة الذكورية)، و(البنيات الاجتماعية للاقتصاد)، و(علم العلم والانعكاسية)، و(تدخلات. العلم الاجتماعي والعمل السياسي)، و(توطئة لتحليل ذات.

تعريف العنف الرمزي

يتحدث بيير بورديو عن العنف الرمزي الذي هو عنف غير فيزيائي، يتم أساسا عبر وسائل التربية وتلقين المعرفة والإيديولوجيا، وهو شكل لطيف وغير محسوس من العنف، وهو غير مرئي بالنسبة لضحاياهم أنفسهم. وينتقد بورديو الفكر

الماركسي الذي لم يولي اهتماما كبيرا للأشكال المختلفة للعنف الرمزي، مهتما أكثرا بأشكال العنف المادي والاقتصادي. كما أشار بورديو إلى أن العنف الرمزي يمارس تأثيره حتى في المجال الاقتصادي نفسه، كما أنه فعال ويحقق نتائج أكثر من تلك التي يمكن أن يحققها العنف المادي أو البوليسي.
و غني عن البيان أن العنف الرمزي يمارس على الفاعلين الاجتماعيين بموافقتهم وتواطئهم. ولذلك فهم غالبا ما لا يعترفون به كعنف؛ بحيث أنهم يستدمجونه كبديهيات أو مسلمات من خلال وسائل التربية والتنشئة الاجتماعية وأشكال التواصل داخل المجتمع. ومن هذه الزاوية يمكن، حسب بورديو فهم الأساس الحقيقي الذي تستند إليه السلطة السياسية في بسط سيطرتها وهيمنتها؛ فهي تستغل بذكاء التقنيات والآليات التي يمرر من خلالها العنف الرمزي، والتي تسهل عليها تحقيق أهدافها بأقل تكلفة وبفعالية أكثر، خصوصا وأن هناك توافقا بين البنيات الموضوعية السائدة على أرض الواقع وبين البنيات الذهنية الحاصلة على مستوى الفكر.
هكذا يتبين أن العنف يتخذ شكلين رئيسيين؛ الأول هو العنف المادي و مظاهره المختلفة، والثاني هو العنف الرمزي الذي بين بورديو بعض وسائله ومدى فعاليته في تثبيت دعائم الدولة والسلطة السياسية. من هنا يبدو أنه من المستحيل الحديث عن مجتمعات إنسانية خالية من العنف؛ فهو ظاهرة أكيدة في تاريخ المجتمعات البشرية.
ومن الجدير ذكره، أنه بالإمكان تهديم شخص ما من دون أن يلاحظ المحيطون به هذا الأمر، عن طريق الكلمات البريئة ظاهرياً أو الإشارات أو الافتراضات أو مجرد الإبعاد.
هذا العنف (الخفي) لكن المتكرر، المزمن وأحياناً اليومي، الذي يصيب نفسية الإنسان ليس جسده بالإرهاق الشديد والألم الذي يعاني منه غالباً بصمت والذي يقوده بالتالي إلى الانكماش والانكفاء نحو الذات، قاتلاً فيه ومقصياً أفضل طاقاته وإبداعاته، مما ينسحب بالتالي إلى طريقة تعامله مع محيطه الصغير أو الكبير، والى عدم التحسب لردود أفعاله
التي تتسم غالباً بسمات الطيش والتهور مفضية بالتالي به وبغيره إلى دوامة التطرف والعنف.
فبرأي بيار بورديو، العنف الرمزي هو عنف هادئ، غير مرئي ومقّنع. (لكونه غير معروف بهذه الصفات، فقد نختاره بقدر ما نعانيه). هكذا فهو يميز فرض التراتبيات في المعارف المشروعة، والأذواق الفنية، وأصول اللياقة، الخ. هذا التعريف لا يأخذ إذاً في اعتباره التجربة الذاتية لمعاناة الفرد. ولكن توجد ظواهر سياسية عديدة، كبيرة الأهمية، ترتبط بشكل آخر من العنف الرمزي تسهل ملاحظته، أي الذي ينتج عن إيذاء تقدير الذات أو التمثيلات الجماعية للذات، فيشكل مصدراً لتراجع الهوية. هكذا مثلاً الخطابات المعادية للأجانب والعنصرية، أو أيضاً إظهار ألقاب التفوق التي تعتبر غير مشروعة (الاستعلاء الأرستقراطي عشية الثورة الفرنسية، الوطنية المتعصبة، إيديولوجيات الشعب المختار أو الطبقة الحاكمة).

و لقد عمل بورديوعلى انتقاد تغاضي الماركسية عن العوامل غير الاقتصادية إذ أن الفاعلين الغالبين، في نظره، بإمكانهم فرض منتجاتهم الثقافية (مثلا ذوقهم الفني) أو الرمزية (مثلا طريقة جلوسهم أو ضحكهم وما إلى ذلك). فللعنف الرمزي (أي قدرة الغالبين على الحجب عن تعسف هذه المنتجات الرمزية وبالتالي على إظهارها على أنها شرعية) دور أساسي في فكر بيار بورديو. معنى ذلك أن كل سكان أي مدينة مغربية مثلا بما فيهم الفلاحون سيعتبرون لهجة فاس مهذبة أنيقة واللهجات الريفية غليظة جدًّا رغم أن اللهجة الفاسية ليست لها قيمة أعلى بحد ذاتها. وإنما هي لغة الغالبين من المثقفين والساسة عبر العصور وأصبح كل الناس يسلّمون بأنها أفضل وبأن لغة البادية رديئة. فهذه العملية التي تؤدي بالمغلوب إلى أن يحتقر لغته ونفسه وأن يتوق إلى امتلاك لغة الغالبين (أو غيرها من منتجاتهم الثقافية والرمزية) هي مظهر من مظاهر العنف الرمزي.

العنف الرمزي للمؤسسة التعليمية
إن العنف الرمزي قضية محورية في أعمال بورديو. ففي معرض تعريفه بالدولة، يعطي العنف الرمزي معنى الضغط أو القسر أو التأثير الذي تمارسه الدولة على الأفراد والجماعات بالتواطؤ معهم. ويبرز هذا المعنى على نحو جليٍّ في التعليم الذي يمارسه النظام المدرسي لناحية الاعتقاد ببديهيات النظام السياسي، أو لناحية إدخال علاقة السلطة إلى النفوس كعلاقة طبيعية من وجهة نظر المهيمنين.
وقف بورديو على الدوام ضد النظام التعليمي القائم على تلقين المعلومات ونقد بشدة المدارس ومناهجها. وحسب رأيه يجب أن تكتفي الدولة بتعليم التعليم وتدريب الناس على تحصيل المعرفة. فالرجل يرفض الأدلجة ولا يقبل أية شبهة للتأثير السياسي في التعليم.
فالمدرسة في مجتمعنا هي إحدى مؤسسات المجتمع المدني الأساسية التي تنتظم في نسق كلي للمجتمع وفق قواعد محددة، وتخصصت تاريخيا في مجال الممارسة التربوية الثقافية، وتلتقي بذلك في وظيفتها وتتكامل مع الأسرة في مجال التنشئة الاجتماعية الثقافية، وقد نشأت المدرسة في المجتمع البشري الذي عرف تقسيم العمل وتشكل الدولة لتكون رديفا للأسرة في الوقت الذي استحال فيه على الأسرة تلقين النشء مختلف المعارف الثقافية، وهي تؤدي دورها هذا المنوط بها تحت هيمنة الدولة، والطبقة السائدة. فهي إحدى أجهزة الدولة الإيديولوجية في مجال الفعل التربوي، يقول ماركس: إن الأفكار السائدة هي أفكار الطبقة السائدة وهي أيضا أفكار الهيمنة .والسمة السائدة والطاغية على مؤسساتنا التعليمية هي سمة السلطوية التي

ورثها نظامنا التعليمي عن النظام التعليمي التقليدي وطعمها الاستعمار لخدمته ثم حافظت البورجوازية على إستمراريتها بعد الاستقلال. وقد بقي النظام التعليمي ممزقا وتابعا للمركز الاستعماري على المستوى التنظيمي وعلى مستوى التسيير زد على ذلك محتوى البرامج والمناهج المدرسية. كما أن الطبقة المسيطرة تهيمن بشكل مفرط على مراقبة الانتقاء لتكريس طابع التراتبية .
وهكذا فالمدرسة اليوم تلعب دورا أساسيا في إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية السائدة في المجتمع محققة هيمنة الدولة وسيادتها بواسطة الإقناع والتراضي حسب تعبير غرامشي أو بواسطة عنف وإكراه وقسر يختلف عن عنف الدولة المادي بكونه عنفا رمزيا حسب بيير بورديو.
ويعرف لينين المدرسة بكونها أداة هيمنة طبقية في يد البورجوازية، إن هاته الطبقة المهيمنة كما يرى بورديو وباسرون، لا ترى أو أنها لا تريد أن ترى العلاقة بين التفاوتات الاجتماعية والتفاوتات المدرسية، إنهم يفسرون- الطبقة السائدة- النجاح المدرسي بكونه تفاوتا بالملكات، وبرأيهم مشكل الملكات الفكرية يطرح فقط لدى الغير المتفوقين والراسبين من أبناء الطبقات المقهورة والنجاح المدرسي في رأي البورجوازية المسيطرة يرجع إلى ميزان شخصية خاصة منذ الولادة، والمدرسة لا تخلو من انعكاس التناقضات الدولة/ المجتمع على بيئتها وأدائها الوظيفي، فكل الصراعات القائمة بين القوى الاجتماعية بسبب مواقعها المتفاوتة في بنية الإنتاج المادي والثقافي للمجتمع، تخترق المجال المدرسي وتؤثر في مضامين القرارات والمناهج وطرق التلقين، وهذا دليل قاطع على الارتباط الكبير بين المدرسة ومحيطها الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي… بالدولة وبالمجتمع المدني.
إن كل خلل وظيفي يطرأ داخل المجتمع لأي سبب كان يؤثر سلبا ويخلق أزمة داخل المدرسة يكون لها تأثير على إعادة إنتاج الدولة لذاتها، وكذا إعادة إنتاج النظام الاجتماعي في مجمله. وعندما يخترق هذا الخلل الزوج السائد الأسرة/ المدرسة داخل النظام الدولتي حتى يتعرض الوجود الاجتماعي كله لخطر التفكك والانهيار.
إن المدرسة اليوم في المجتمع لا تعيد إنتاج المجتمع المبني على تساوي الحظوظ، إنها لا تزال تتخبط في إرث الإيديولوجية القديم. إرث البورجوازية المسيطرة.
إن تأثير المدرسة من حيث: نمط الحياة، التربية الأسرية والحظ في التربية كلهم مختلفين، فثقافة الطبقات المحظوظة تتساوق مع ثقافة المدرسة، وعاداتهم تماثل العادات
المكتسبة داخل المدرسة. فالمدرسة نظام خاص من أنظمة التفاعل الاجتماعي جعلها أكثر أهمية. وهي تتميز عن محيطها بالروح التي تسود داخلها وهي الشعور بالنحن، وبذلك فهي لا تعمل على صنع المستقبل دون اعتبار للحاضر. وإنما يجب أن ترتكز

على حاضر التلميذ من جميع الجوانب، وفي تركيزها على الحاضر إنما تعد وبشكل جيد للمستقبل في الوقت ذاته كما يرى جون ديوي.
إلا أن ثقافة المدرسة كما يرى باسرون و بورديو، ليست على نحو مباشر هي الثقافة البورجوازية. لكنها متساوقة معها بكيفية مباشرة، خصوصا عبر السلوكات الذهنية، واللسانية والثقافة، وتم تصور أشغال المدرسة وخصوصا اشتغال العلاقة البيداغوجية كآلة لإنتاج التفاوتات الاجتماعية، إذ لا يمكن الحديث عن فرصة تساوي الحظوظ ليس لآن المواهب التي تتحدث عنها الطبقات المهيمنة موزعة بكيفية متفاوتة بل لأن المدرسة تشجع التدابير الخاصة بالطبقات المبجلة، إن جل ميكانيزمات المدرسة هي في الأصل أساليب لانتقاء أطفال الطبقة المحظوظة وإقصاء الآخرين. فمدرسة إعادة الإنتاج حسب بورديو لا تنتج أطفالا أحرارا، خصوصا وأن التفاوتات المدرسية منظور إليها كتفاوتات في الاستحقاق. تضفي الشرعية على التفاوتات الاجتماعية التي تصدر عنها وتعيد إنتاجها.
إن المدرسة أداة للخضوع والامتثال، وسواء باسرون و بورديو أو آخرون يربطون وظيفة المدرسة ببنية الطبقات الاجتماعية. أما اليتش فحين ينتقد المدرسة فلأنه يرى أنها تنتج التفاوتات الطبقية.
فهي تلعب بذلك دور المحدد الأساسي في التقسيم الطبقي، ويضيف اليتش أن المدرسة مكان لم يلجه نصف البشر وتبقى بذلك المدرسة لا تهدف إلا لتطوير صناعات عقول مملوءة وهو نوع آخر من التبضيع الدراسي والثقافي. إن تنظيم وظيفة النظام التعليمي تترجم باستمرار وبواسطة شفرات متعددة التفاوتات الطبقية على المستوى الاجتماعي إلى تفاوتات على المستوى المدرسي.

فالمدرسة مثلا تحت ظل ديمقراطية التعليم والمساواة- و هذا شعار طالما رفعته دول عديدة- تحدد الناجح وغير الناجح، والمتقدم والمتأخر، ولكن ولأن الرأسمال الرمزي متفاوت بفعل تفاوت المستويات المجتمعية – فمجموع معارف الأغنياء يتناسب مع سواهم لأن المدرسة تحاكم الجميع وفقا لـ “رأسمال رمزي” لمجموعة واحدة هي عادة الطبقة الوسطى. فتصير هذه المؤسسات أداة طبقية لـ “إعادة إنتاج” السلطة القائمة في المجتمع. طالما أن معايير التمايز هي وفقا لطرف واحد وليس معيار كلي.
ومن أجل أن يتم اعتماد قيم الطبقة الوسطى كمعايير تربوية، يمارس “ العنف الرمزي باعتبار أن أي آلية تربوية ستمارس جهدها لإبراز قيم وإخفاء أخرى. فالخطاب التربوي ليخفي الهيمنة، يلجأ لمفاهيم النظام والعقاب، ويمارس على نطاق واسع ومستويات مختلفة،وبالتالي فـ “ العنف الرمزي ” هو لصيق العملية التربوية

دائما مهما كانت. وتصير المسارح والسينما والفنون الجميلة والهوايات التي تتمكن منها هذه الطبقات قيم سامية، فيما ربما لا يعد الصيد مثلا كذلك .. وحتى هواية التصوير الفوتوغرافي بعد التقدم التقني الذي يجعل معداته بوسع الجميع تقريبا، يخرج من كونه علامة ثقافية معتبرة.
إن النظام التربوي في المجتمعات ذات التفاوت الطبقي كما يرى بورديو يعتبر أحد الآليات الأساسية الفعالة في ترسيخ النمط الاجتماعي السائد في تلك المجتمعات،وهذا يبدو جليا من خلال بنية الفرصة النسبية المتاحة لأبناء الطبقات المختلفة لدخول النظام التعليمي في مراحله المختلفة،هذا من جهة ومن جهة أخرى ثمة مظهر آخر لهذا العنف الممارس القوى السائدة وهو في تنوع المدارس في المجتمع الواحد واختلاف مستوياتها باختلاف أصول الطبقية للتلاميذ الداخلين إليها،فأبناء الطبقات العليا هم الذين يحتلون المدارس ذات النوعية الرفيعة،وعلى ذلك فالتنوع في المدارس واختلاف مستوياتها إنما يعكس صور هذا التفاوت الطبقي ويجسد بشكل واضح أحد أهم مظاهر العنف الثقافي في المجتمعات الحديثة.
فعند دراستنا للحقل المدرسي نلاحظ أن فيها تعسفا رمزيا تشرعه القوانين والتقاليد المدرسية التي تشتمل في مكوناتها الظاهرة على عدالة مصدرها تكافؤ الفرص وخضوع الجميع للقانون. وعليه فالسلطة المدرسية تتسلم في واقع الأمر تفويضا من الطبقات المهيمنة لفرض التعسف الثقافي، فعن طريق هذا التفويض يتم تمرير العنف الرمزي بلطف.

فلو أخذنا مثالا كاللغة سنجد أن التلميذ الغني يختزن في ذاكرته رصيدا لغويا هائلا بالمقارنة مع التلميذ الفقير. فالأول يستعمل لغة تجريدية وله بروتوكول وإتيكيت عالي المستوى وله اهتمامات ثقافية ومدى اجتماعي واسع من العلاقات ورصيد من السلوكات والخبرات لم تكن متاحة لزميله الفقير، وحين يتقدم الاثنان إلى الامتحانات من الطبيعي أن تكون فرصة الطالب الغني في النجاح وتحصيل القدر الأكبر من العلامات أكثر من فرصة الطالب الفقير. هذا الواقع ينطوي على تعسف ثقافي مشروع يعترف به الجميع دون أن يدركوا ظلمه وفداحته، فليس من العدل أن يخضع التلميذان لامتحان من نفس النوع والمستوى في حين يتمايزان بشدة فيما لديهما من رصيد وفرص للنجاح.

العنف الرمزي للتلفزة

بداية لا شك في أن التلفزيون أصبح يلعب دوراً أساسياً ومهماً في حياتنا

من خلال المتابعة اليومية لما يبث من خلاله من برامج وأخبار ومشاهدات مرغوب فيها وأخرى غير مرغوب فيها وما لبث وأن أطلق البعض على هذا الجهاز “بالضيف الاجباري” .
ومن غير المبالغ فيه أن نقول بأن التلفزيون يساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في تربيتنا لاولادنا واعدادهم للمستقبل القادم و على هذا الصعيد أود أن أشير ألي سلسلة من من الاليات التي تثبت أن التلفزيون يمارس نوعاً من “العنف الرمزى” المفسد والمؤذي .

وأبرز مظاهر هذا العنف أن التلفزيون يملأ أوقات الناس بالأشياء غير الهامة و غير الضرورية وهو يستهلك زمنهم في قول أشياء تافهة تخفي في الحقيقة بالقدر نفسه الأشياء الثمينة , وبهذا المعني فان التلفزيون يسهم في تدمير الوعي حينما ينشر وعياً زائفاً أو يحجب المعلومات عبر لعبة اسميها “لعبة المنع بواسطة العرض” .
تبدو الأشياء أقل وضوحاً في التلفزيون أثناء عرضها وهنا وجه من وجوه التناقض : أشياء يتم اخفاؤها عن طريق عرضها أو “بواسطة عرض شئ آخر غير ذلك الذي يجب عرضه ” والطريف هنا أن الصورة التي يقدمها التلفزيون ويقوم بتضخيمها ويمنحها صفات درامية وتراجيدية , وانما يفعل ذلك باستخدام كلمات كبيرة فالكلمات المعتادة لا تثير دهشة أحد وبهذا تهيمن الكلمات علي الصورة فالصورة لاتعني شيئاً دون التفسير للذي يجب أن تتم قراءته .
ينطلق بورديو من فكرة أن التلفزيون يشكل راهناً أداة للقمع الرمزي (نظراً للمستوى الثقافي أو المعرفي المتدنِّي للمشاهدين الذين يميلون إلى تصديق ما يعرض عليهم بعامة). وهو يأمل في أن يتحول التلفزيون إلى أداة للديموقراطية المباشرة لو تم رفع المستوى العلمي للمشاهدين وتقوية استقلالية التلفزيون عبر إدراك العوامل التي تعمل على ضرب تلك الاستقلالية. و العوامل غير المرئية التي تُمارَس الرقابة من خلالها تجعل من التلفزيون أداة عظيمة لتثبيت النظام الرمزي (تواطؤ المتلقِّين والذين يمارسونه). وهكذا يغدو التلفزيون أداة لخلق الحقيقة وللتحكيم الاجتماعي والسياسي، وليس، كما يُدَّعى، أداة لتسجيل الواقع. وهو ليس ملائماً للتعبير عن الفكر أو الرأي؛ إذ يمنح أهمية للتفكير السريع وللغذاء الثقافي السريع المقترن بأفكار مسبقة. وحول هذا الموضوع يقدم بورديو أفكاراً للتحديد وللتحقق منها، بوصفها أموراً معقدة جداً لا يمكن معرفتها إلا من خلال عمل أمبيريقي مهم، ارتكازاً على ملاحظات من الواقع.

و غني عن البيان أن عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو كان مثقفا مشاكسا انخرط في الصراع الاجتماعي السياسي في فرنسا،و ترك بصمات واضحة على مشروع نقد العمل الإعلامي، والتلفزيوني خصوصاً.
فأن تكون صحافياً وتقرأ كتاب بيار بورديو «عن التلفزيون»، فهذا يعني أنك أدخلت نفسك طوعاً في محاكمة قاسية، وخصوصاً أنك ستشعر مع كل اتهام يطلق عليك، بأنها محاكمة عادلة. إذ أنه ليس قائماً على بحث علمي تحليلي بل «وصف فظ»، كما يعبر بورديو، لواقع العمل الصحافي وكواليس التلفزيون وعلاقات الصحافيين بعضهم ببعض، وبمختلف القوى الاجتماعية.
ينتقد بورديو في الكتاب «الحقل الصحافي» من الداخل والخارج: بدءاً من طريقة الحصول على الخبر ومعالجته، مروراًً بالنشرة الإخبارية التلفزيونية التي يصفها بـ«منتج غريب» يناسب الجميع، وصولاً إلى البرامج الحوارية «التمثيلية» التي تستضيف أشخاصاً لا علاقة لهم غالباً بالموضوع المطروح للنقاش، ولا يتساوون في معلوماتهم. «عندما تكتب صحيفة معنية عن كتاب، ستجد صحيفة ثانية نفسها مجبرة على عرض الكتاب ذاته، حتى لو كان سخيفاً. كذلك الأمر لدى الكتابة عن معرض فني أو مسرحية…».
يقدم بيار بورديو هذا المثل البسيط ليبرهن تشابه وسائل الإعلام في مضمونها، على رغم التعددية الظاهرة. هذا التشابه سببه دورة الخبر حول نفسه: ينشر في جريدة، فيتلقفه صحافي في مؤسسة إعلامية ثانية، ويتابعه مضيفاً إليه تفصيلاً صغيراً قد لا تكون له أي أهمية. وهو يفعل ذلك من دون أن يكلّف نفسه عناء البحث عن خبر آخر…
ويردّ بورديو هذا السلوك إلى «المنافسة» بين الصحافيين. منافسة تعزز حالة الطوارئ، وتجعلهم يأتون بخبر خاطئ أو يقدمونه بطريقة تسبب ذعراً: «أتمنى أن يسمع الصحافيون ما يقولونه، هم الذين يرمون كلماتهم بكل خفة، من دون أن يكون لديهم أدنى فكرة عن خطورة ما يقولونه، والمسؤوليات التي يجب عليهم تحملها… كلماتهم تثير الخوف والهواجس، وتؤدي في معظم الأحيان إلى تشكيل صور خاطئة عن الحقيقة».
التشابه رغم التعددية، تعزيز حالة الطوارئ وبث الأخبار الخاطئة، ليست إلا نقطة في بحر الانتقادات التي يعرضها بيار بورديو، وهي انتقادات قائمة على ملاحظات تفصيلية ليوميات العمل الصحافي وآلياته. يعرضها معترفاً بأنها تحتاج إلى بحث علمي يثبت ما يخلص إليه: التلفزيون وعدد كبير من الصحافيين، هم “معادون للثقافة”، ويمارسون «عنفاً رمزياً» على المشاهدين.

فالرجل يرى أن العمل التلفزيوني مبني على السرعة، لذلك ليس هو المكان الأفضل للتفكير. من هنا، يتم اللجوء في المقابلات المتلفزة إلى «مفكرين سريعين» (fast thinkers) يحملون أفكاراً مسبقة عن الموضوع المطروح، «ولا خوف من مشكلة في التلقي، لأن هذه الأفكار المسبقة يعرفها الجمهور الذي يحصل على وجبة FAST FOOD… ثقافية».
ويبني بورديو نظريته على تجربة شخصية استطاع خلالها اكتشاف عمل المقدّم غير المثقف: «شاركت أكثر من مرة في مقابلات، أعدت خلال طرح السؤال على نفسي، حتى أتمكن من مقاربة الموضوع الذي يرغب المذيع في مناقشته. كنت أكرر للمقدم «سؤالك مهم بالتأكيد، لكني أعتقد أنه في هذه الحالة هناك ما هو أهم منه»… وهو يكرّر شكواه من الصحافيين غير المثقفين الذين يذهبون لتغطية خبر معين، فيفاجأون برؤية أشياء غير مفاجئة أو العكس. فهم يسقطون رؤيتهم الخاصة على الحدث، علماً بأن علماء الاجتماع أنفسهم لا يستطيعون ادعاء ما يدعيه هؤلاء: «إن واحدة من أكبر المشاكل التي تعترض علماء الاجتماع، هي تجنبهم السقوط في أحد هذين الوهمين في معرض تحليلهم لظاهرة معينة: القول بأنها الأولى من نوعها، أو إنها تتكرر دائماً». وهذا ما يردده الصحافيون على الدوام «وهنا يكمن خطرهم، فهم غير مثقفين، ولا تعني لهم الظواهر الاجتماعية الحقيقية شيئاً». لكنهم رغم ذلك يمارسون تأثيراً كبيراً وسلطة مطلقة على مختلف الحقول الاجتماعية: السياسية والقضائية والنقابية وأحياناً على من هم أرفع مستوى منهم، وذلك بسبب احتكارهم لآليات إنتاج المعلومة ونشرها أو إضفاء الشرعية على الضيوف الذين يحظون بإطلالة متلفزة.

غير أن الصحافي ليس وحده المسؤول بل «الحقل الصحافي» بكامله. ويرفض بورديو أي محاولة لتحليل سلوك صحافي معين أو وسيلة إعلامية محددة، بعيداً من زملائهما، «لا يمكن أن نفهم ما الذي يحدث في TF1 بمجرد القول إن شركة BOUYGUES هي من يملكها. هذا سبب لكنه ليس وحيداً، يجب أن نأخذ في الاعتبار مجموعة العلاقات الموضوعية التي تؤسس الحقل الصحافي بكامله».
حين انتقد بورديو التلفزيون، كان يتحدث ضمن سلسلة محاضرات متلفزة نظمها آنذاك «كوليج دو فرانس». أي إنه استعمل بدوره شاشة التلفزيون، لكن ضمن شروط تناسبه لجهة اختيار الموضوع، وامتلاك الوقت الكافي لمناقشته. ولأنه بدأ محاضرته بالتأكيد على أن امتلاك المواطن للمعلومة هو الذي يتيح له ممارسة حقوقه الديمقراطية، فقد طالب بمحاربة الـAudimat (نسبة إقبال المشاهدين) الذي يعزز ثقافة الـ“فاست فود”. كما عبّر عن أمله بأن تنشأ، داخل الجسم الصحافي، علاقات بين الصحافيين تساعد في التخفيف من التأثير السلبي للأدوات التي يمتلكونها. وقدّم مثلاً: “في قضية خطف الأطفال (التي يُتّهم فيها المهاجرون غالباً بشكل أوتوماتيكي) يمكننا أن نتخيّل، أو

نحلم، أن يتفق الصحافيون على عدم استضافة زعماء سياسيين معروفين بمواقفهم المسبقة ضد الأجانب”.

يقول بيار بورديو في كتابه «التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول»: «أحد المشاكل الكبرى التي يطرحها التلفزيون هي العلاقة بين التفكير والسرعة. هل يمكن التفكير أثناء اللهاث بسرعة؟ وهكذا حصل التلفزيون على مفكرين (على السريع)، عندما أعطى مجال الحديث لمفكرين أجبرهم على أن يفكروا بسرعة متزايدة. مفكرون يفكرون بأسرع من ظلهم».

مشكلة السرعة حولت العلاقة بين التلفزيون والصحافة إلى علاقة انتفاعية، الغلبة فيها حكماً للتلفزيون كونه الأوسع والأسرع انتشاراً. ففيما تعمل الصحافة بتأن زمني يستهلك على الأقل 24 ساعة بين تحضير المواد للنشر والطباعة، تدور عجلة البث التلفزيوني كالمطحنة في عملية محو وتسجيل يومي للذاكرة. فكل نشرة أخبار تمحو ما سبقها لتسجل أحداثاً جديدة، تتطلب مجموعة من البرامج المواكبة تحليلاً وتفسيراً. وتحت ضغط الوقت، لا مناص من اللجوء إلى الصحافة، سواء من جانب الاستعانة بالأفكار، أو في اختيار الأشخاص المناسبين لتحليل ما وراء الأخبار. فلا يمكن لأي معد برامج أن يبدأ يوم العمل من دون الاطلاع وبشكل آلي على عناوين الصحف والمقالات المكتوبة.

إن الموضوع الذي يعالجه بيير بورديو في هذا الكتاب يتعلق في مستواه المباشر بتحليل بنية و آليات أحد منتجات هذه التكنولوجيا الحديثة التي تعرف بتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، لكن الموضوع غير المباشر (لكنه رئيس وأساس!) هو علاقة الإيديولوجيا بهذه التكنولوجيا. إذا كان من الممكن اعتبار أن العلم محايدٌ، فإن استخدامات العلم وتطبيقاتِهِ أي التكنولوجيا ليست محايدة. فيما يتعلق بتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات فإن التوظيف والمضمون الإيديولوجي لهذه التكنولوجيا يجد أوضح مثال له في الدور الذي يلعبه التلفزيون لا يقتصر الدور الخطير الذي يلعبه التلفزيون على التأثير المباشر على المشاهدين ولكن هذا التأثير يمتد كما يوضح بورديو في هذا الكتاب إلى مجالات الإنتاج الثقافي الأخرى وهو ما ينبّه إلى خطورته بشكل خاص. لقد كثر الحديث عن »نهاية الايديولوجيات« و»نهاية التاريخ«، كما تم الترويج لنظرية صموئيل هنتنجتون المعروفة »بصدام الحضارات« الخ. ولكن الشيء المثير للدهشة والتعجب أن هذه المقولات التي روِّج لها كثيراً في أوساط المثقفين ووسائل الإعلام خصوصاً بعد انهيار سور برلين والتحولات السريعة والعنيفة التي شهدتها دول شرق أوروبا، مروراً بحرب الخليج الأولى ثم أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها من حرب واحتلال لأفغانستان والعراق، هي في حد ذاتها تعبير عن أيديولوجيا تدّعي

السيادة والانتصار على الأيديولوجيات الأخرى!. أيديولوجيا تعبّر عن نزعات عنصرية وفاشية جديدة تمثل تهديداً حقيقياً للإنجازات الرائعة التي حققها الفكر الإنساني عبر مسيرته الطويلة.

مما لا شك فيه أن المواجهات الأيديولوجية التي كانت سائدة طوال فترة الحرب الباردة قد انتهت بصورتها القديمة، أي المواجهة وجهاً لوجه وسيادة الخطاب الأيديولوجي المباشر. لكن التحول الجديد الذي طرأ خلال السنوات العشر الأخيرة من القرن المنصرم وحتى الآن هو انفراد ما يمكن أن نسميه بالأيديولوجيا الناعمة بموقع الصدارة في وسائل الإعلام المختلفة. »الأيديولوجيا الناعمة تتمثل فى تلك الجرعات اليومية بل اللحظية التى تبثها وسائل الاعلام »soft ideology«
الحديثة وكذلك الوسائط المتعددة
Multimedia وانتشار شبكة الانترنت على المستوى العالمي
.
هذه الجرعات تتغلغل وتنساب إلى عقول المشاهدين والقراء والمستمعين ومستخدمي الوسائط المتعددة والانترنت الخ. بهدوء وبلا ضجيج على عكس ما كان يتم في السابق. إن المجال مفتوح الآن لعمل دراسات على التوظيف والمضمون الأيديولوجي لكل هذه الوسائل والأدوات وهو ما يقدم له بورديو نموذجاً منهجياً في هذا الكتاب. إن طريقة التحليل التي يقدمها بورديو هنا يمكن تطبيقها على مجالات أخرى.
إن وسائل الاداعة و التلفزيون في الأنظمة الغير الديمقراطية تصنف ضمن إطار الأجهزة المحافظة التي تسعى إلى توفير هيمنة السلطة على الجمهور الواسع من خلال تمرير تقافة هجنة تسعى إلى تكريس ماهو قائم وتشكيل وعي يومي سادج لدى المتلقي وهدا هو صميم موضوع بورديو في كتاباته التي تنصب حول نقد البنية الوظيفية التقليدية في التلفزيون و التي يتم إخراجها بتخطيط من خبراء الداخلية/ الإعلام من داخل الكواليس و تمارس يوميا تحت عنوان إستراتيجية الإعلام في العهد الجديد.

المراجع

1. سلسلة عالم المعرفة عدد 44 إتجاهات نظرية في علم الإجتماع د. عبد الباسط عبد المعطي
2. ذ. العطري عبد الرحيم العلوم الاجتماعية و التحولات السياسية : في الحاجة إلى السؤال السوسيولوجي”
3. نفس المرجع السابق
4. صبحي درويش كاتب سوري
5. مدرسة إعادة إنتاج الطبقات عبدالله العبادي
6. شبل بدران،حسن البيلاوي:مرجع سابق،ص116.
7. سعاد جروس مقالات تتحول إلى «روبورتاجات مصورة»
8. محمد خضر كاتب صحفي
9. درويش الحلوج قراءة في التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول


——————————————————————————————-

الأحزاب السياسية

بقلم : بلوح إبراهيم

مقدمة

لا يخفى على أحد أن الأحزاب السياسية تعد إحدى أدوات التنمية في عصرنا الحديث.

فكما أن سياسة التصنيع تسهم في النهوض بالتنمية الاقتصادية , و السياسة الاجتماعية تروم المضي

قدما بالتنمية الاجتماعية , فالأحزاب السياسية في ممارستها للعمل السياسي تسهم بدون شك في الرفع

من التنمية السياسية للوطن و الوعي السياسي للمواطنين.

و غني عن البيان أن الحديث عن الحزب السياسي لم يبدأ بشكل حقيقي إلا مع ظهور* البرلمانية *

parlementarisme  لكنه قديم سبق و تحدث عنه مفكرون و فلاسفة قدامى .

وبصرف النظر عن أي أحكام »قيمية «حول الأحزاب السياسية, فإنها تظل  ذات أهمية في الحراك

الاجتماعي و الاقتصادي للبلد  سواء أكانت ليبرالية أم سلطوية أم شمولية ; تعددية أم أحادية …

لابد من طرح سؤال في البداية عن مفهوم الأحزاب السياسية ؟ و دواعي نشأتها   ؟ والسؤال الآخر ما

وظائف هذه الأخيرة ؟ و هل تتحذ شكلا واحدا أم تتنوع أشكالها و أصنافها ؟ أحقا تضطلع الأحزاب

بالدور المنوط بها و الذي يشكل أساس تكونها ؟ أم هي مجرد آليات لإهدار الإمكانات المادية و المعنوية ؟

هل الأحزاب السياسية ضرورة أم ترف في الدولة المعاصرة ؟

تعريف الأحزاب السياسية.

إن محاولة تعريف الحزب السياسي يدخلنا لا محالة في إشكال التعدد و الإختلاف,   لاسيما و أن ا لظاهرة  الحزبية مركبة  تتسم بالشمولية والتعقيد . و مرد ذلك تنوع الأيديولوجيات والمفكرين الذين أخذوا هذا الموضوع بالدراسة والتحليل.

فهناك من  يعرفها  بأنها  اجتماع عدد من الناس يتبنون العقيدة السياسية نفسها، ويرى آخرون أن الحزب السياسي ما هو إلا  مرآة تعكس حال الطبقات الاجتماعية، وهناك من رأى أنها جمعيات هدفها العمل السياسي،  إلى غير تلك من التعريفات.

و في تعريف آخر فالأحزاب هي” قنوات للتعبير بمعنى أن الأحزاب تنتمي-أولا وقبل كل شيء إلى أدوات أو وسائل التمثيل إنها أداة ; أو هيئة للتمثيل الشعبي تقوم بالتعبير عن مطالب اجتماعية محددة1″

ويعرفه نص قانون  الأحزاب السياسية فى المغرب بأنه :

“تنظيم دائم يتمتع بالشخصية المعنوية ويؤسس بمقتضى اتفاق بين أشخاص طبيعيين، يتمتعون

بحقوقهم المدنية والسياسية يتقاسمون نفس المبادئ، قصد المشاركة في تدبير الشؤون العمومية بطرق ديمقراطية ولغاية غير توزيع الأرباح2 “  .

وبشكل عام يمكن  تعريف الحزب السياسي بأنه اتحاد بين مجموعة من المواطنين يشكلون هيكلا تنظيميا يجمع القادة والأعضاء ، وله جهاز إداري ، يؤمنون بأهداف سياسية وأيديولوجية مشتركة

وينظمون أنفسهم بهدف توسيع دائرة أنصارهم والوصول إلى السلطة وتحقيق برنامجهم.

أصل نشأة الأحزاب

من المؤكد أن الأحزاب السياسية لم تكن معروفة قبل القرن التاسع عشر إلا في الولايات المتحدة وانجلترا  .ومنذ أوائل القرن التاسع عشر بدأت ظاهرة الأحزاب تنتشر بمفهومها الحديث

حتى أصبحت اليوم معروفة تقريبا في جميع الدول .

و يمكن القول أن البدايات الأولى للأحزاب كانت مرتبطة بالديمقراطية وباتساع هيئة الناخبين

وبتبني نظام الاقتراع العام وتقوية مركز البرلمانات.

فكلما ازدادت مهام البرلمانات وشعرت باستقلالها، كلما استشعر أعضاؤها ضرورة تنظيم صفوفهم،

وكلما ازداد عدد الناخبين، كلما بدا من الضروري تكوين لجان قادرة على تنظيم الناخبين لكي تكون

أصواتهم مؤثرة3.

وهكذا فإن نشأة كثير من الأحزاب في أوربا والولايات المتحدة مرتبطة بنشاط الناخبين وأعضاء

البرلمان.  ويظهر على الأحزاب التي نشأت من تنظيم أعضاء البرلمان والناخبين لأنفسهم بأنها

ذات أصل داخلي أي نشأت داخل هيئة الناخبين والبرلمانات.

بينما توجد أحزاب أخرى نشأت خارج البرلمانات والناخبين،  ذات أصل خارجي وهذه هي الأحزاب التي قد تنشأ نتيجة لنشاط النقابات ”حزب العمال البريطاني1899 ” أو الكنائس أو الجماعات الدينية

أو الخلايا السرية.

وإذا ما انتقلنا إلى دول العالم الثالث نجد أنها تأثرت بحركات التحرر فبعضها نشأ لمقاومة

الاستعمار » حزب الاستقلال المغربي  « واستمر ليمسك بالسلطة بعد الاستقلال، وبعضها نشأ بعد الاستقلال.

و عموما يمكن أن نجمل دواعي نشأة الأحزاب في النقط التالية:

*  إن ظاهرة  الأحزاب السياسية ارتبطت  بالبرلمانات ، ووظائفها في النظم السياسية المتعددة.  فمع وجود البرلمانات ظهرت الكتل النيابية، التي كانت بداية ظهور الأحزاب، حيث أصبح هناك تعاون بين أعضاء البرلمانات المعتنقين لنفس الأفكار والإيديولوجيات أو المصالح ” التجانس الإيديولوجي”، ومع مرور الوقت استشعروا ضرورة العمل ضمن أحزاب.

* ارتباط ظهور الأحزاب السياسية بالتجارب الانتخابية في العديد من بلدان العالم ، وهي التجارب التي بدأت مع سيادة مبدأ الاقتراع العام ، عوضاً عن مقاعد الوراثة ومقاعد النبلاء .

* بروز منظمات  الشباب والجمعيات الفكرية والهيئات الدينية والنقابات، وقد سعت بعض هذه المؤسسات لبلورة و هيكلة أطرها بشكل أكبر من كونها جماعات  تحقق الخدمة لأعضائها .

* ارتباط نشأة الأحزاب السياسية – أحيانا – بوجود أزمات التنمية السياسية. فأزمات مثل الشرعية والمشاركة والاندماج أدت إلى نشأة العديد من الأحزاب السياسية .

* ثمة رأي  شائع أن  الأحزاب السياسية جاءت كنتيجة لقيام بعض الجماعات لتنظيم نفسها  بغية مواجهة الاستعمار والتحرر من بغي و استغلال الاحتلال الأجنبي ، وهو الأمر الذي يمكن ملاحظته تحديدا في الجيل الأول من الأحزاب السياسية التي ظهرت في بعض بلدان العالم العربي وأفريقيا .

وظائف الأحزاب

تجدر الإشارة إلى أن الأحزاب السياسية تضطلع  بدور هام فى بلورة الانقسامات و الإختلافات الطبيعية فى المجتمع ، وتحويلها  إلى انقسامات منظمة، ذلك أن المناخ السياسي يعج

بالتيارات المتعارضة ، والقوى ذات المبادئ و الإيديولوجيات المتباينة.

فإذا كان من غير اليسير إعطاء تعريف مانع و جامع  للأحزاب السياسية كما أسلفنا الذكر , فمسألة القطع في وظائف الاحزاب السياسية تطرح نفس الجدل  غير أنه يمكن أن نجمل أهم وظائف

الأحزاب السياسية سواء كانت في السلطة أو في المعارضة فيما يلي :

الوظيفة الأولى: التعبئة

المقصود بالتعبئة لجوء الأحزاب السياسية إلى الرأي العام عبر تأطيره و إشراكه في الحلول السياسية للإشكاليات التي تعاني منها الدولة. و تنظيم إرادة قطاعات من الشعب وبلورتها بشكل يتماشى و النظام السياسي للوطن.

و تظل هذه الوظيفة هدفا أثيرا في ثقافة الأحزاب السياسية، التي تروم تعبئة هيئات تعمل على إرساء الأمن القومي أو الوطني عبر توفير مناخ الثقة في المؤسسات الوطنية ” “بما يمكن من تحرير الطاقات

ونشرالأمل وفتح الآفاق والإسهام في إنتاج نخب كفأة متشبعة بقيم الفعالية الاقتصادية والتآزر الاجتماعي، وتخليق الحياة العامة، وإشاعة التربية السياسية الصالحة، والمواطنة الإيجابية، وابتكار الحلول وطرح المشاريع المجتمعية الناجعة، والمبادرات الميدانية  الفاعلة، إسهاما منها في نماء وتطوير البلد، وتوطيد أركان الدولة بالمؤسسات والهيآت الديمقراطية الفاعلة  “. 4

الوظيفة الثانية: دعم الشرعية

لا شك أن مشاركة الأحزاب  في الحراك السياسي يعطي النظام السياسي الشرعية بيد أن مقاطعتها  للإستحقاقات الإنتخابية  قد يشكك او يقلل من الشرعية التي يمتلكها هذا الأخير.

فالأحزاب تنظم إرادة  فئات   واسعة من الشعب , هذا التنظيم و التأطير يروم المساعدة في خلق

الوعي السياسي وبالتالي تكوين رأي عام أكثر فاعلية في البلد يساهم لا محالة في استتباب الأمن السياسي و تجنب القلاقل و الإنفجارات الشعبيةالتي تسبب ما يعرف بأزمة الشرعية مما ينتج عنه انهيار في البناء الدستوري.

الوظيفة الثالثة: التجنيد السياسي

يعنى التجنيد السياسي  باختيار أشخاص لمهام اجتماعية معينة رسمية كوزير أو عضو برلمان أو موظف إداري أو. ما دون ذلك من المناصب

ويصادق الحزب على هذا الدور من خلال التعيين أو عبر الانتخابات فالحزب الذي يصل إلى السلطة يقوم بتشكيل الحكومة وتعيين مناضليه في المناصب والوظائف الإدارية.

و تتجسد هذه الوظيفة في نص قانون الأحزاب السياسية بالمغرب فيما يلي:

“ تساهم الأحزاب السياسية في تنظيم المواطنين وتمثيلهم· وهي بهذه الصفة، تساهم في نشر الثقافة السياسية ومشاركة المواطنين في الحياة العامة وتأهيل نخب قادرة على تحمل المسؤوليات العمومية وتنشيط الحقل السياسي”   5

الوظيفة الرابعة: التنمية

من الأكيد أن الأحزاب السياسية تم إنشاؤها عبر التوافق المبدئي المعقود بين أشخاص من أجل خدمة المصالح العامة للمنتمين إلى الحزب السياسي و ذلك يدخل ضمن المبادئ الأولية لهذا الأخير .

“ فالحزب هو الذي ينظم الخدمات الاجتماعية لأعضائه ; ويساعد على توفير الوظائف و  تقديم الرعاية الطبية; كما أن الحزب هو الذي ينظم برامج التدرب السياسي ; ويعلم التاريخ القومي أو الطبقي ; أو الإقليمي وينشر برامج التنمية الاقتصادية للحكومة ; ويحدد طموحاتها الخارجية6. ”

الوظيفة الخامسة: الإندماج القومي أو الوطني

يلعب الحزب  السياسي دورا أساسيا في تذويب الاختلافات العرقية أو الثقافية أو الدينية في صفوف المواطنين و غرس مشاعر الانتماء للوطن  و مشاعر المواطنة  عبر الإنتساب إلى الحزب و العمل من داخله كفريق توحده مبادئ الحزب و  وظيفته في خلق التكامل القومي أو الوطني  بإدماج العناصر الاجتماعية المتباينة في الدولة  الواحدة .

أنواع الأحزاب السياسية

من البديهي  أن تصنيف الأحزاب  السياسية يختلف من بلد إلى آخر و ذلك راجع لدواعي النشأة و المقدمات الأولى في ظهورها . و كذا التطورات السياسية التي أفرزتها و الانشقاقات التي تحدث من داخلها مما يصعب عملية التصنيف .

إلا أن هناك ثلاث تحديدات عامة للأحزاب السياسية و هي :

1. الأحزاب ذات البعد الإيديولوجي  : وهي  تلك الأحزاب التي تعتقد بمبادئ أو أفكار و إيديولوجيات خاصة ومحددة. ويعتبر التمسك بها و الإيمان الراسخ بنجاعتها إحدى أهم السمات المميزة للمناضلين المنتسبين للحزب . ومن أمثلة أحزاب البعد الإيديولوجي الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والشيوعية .بيد أن  القرن الماضي أفرز أحزاب لا تتبنى البعد الإيديولوجي و لكن تحمل برامج سياسات عامة .

2. أحزاب ذات البعد الزعاماتي الفرداني :  يتضح من بعدها ارتباطها بشخص معين و ما يصطلح عليه في كثير من البلدان  بالزعيم. فهذا الأخير  هو المنوط بإنشاء الحزب وقيادته و تحديد خطه العام و  مساره و الإشراف على تغييره  . وهذا الولاء للزعيم راجع إلى  قدرته الكاريزمية  ” القدرة على الإقناع”  زعماء النقابات على سبيل المثال , فكما لهم القدرة على تعبئة الجماهير للقيام بإضراب , لهم الكفاءة و القدرة نفسها على إقناع ذات الجماهير إلى الرجوع عن الإضراب و الالتحاق بالعمل و هذا شائع في كثير من الدول , كدول الشرق الأوسط و شمال إفريقيا وأمريكا اللاتينية ، حيث انتشار البيئة القبلية  أو الطابع القبلي أو الطبقي الذي يمثله الزعيم.

3. الأحزاب ذات البعد  البرجماتي : يتميز هذا الصنف من الأحزاب  بتنظيم حزبي له برنامج يروم متابعة الأحداث و التطورات و يتصف بالمرونة مع متغيرات الواقع . إذ أن بإمكان مناضليه  تغيير برنامجهم أو بعض بنوده و لربما تحوير الخط العام للحزب وفقاً لتطور الظروف .

خاتمة

يعرف عالمنا المعاصر تطورات كثيرا ما وضعت الدولة أو النظام السياسي بأحزابه المختلفة سواء منها الموالية أو الحاكمة أو المعارضة أمام إشكالات تفرض عليها إعادة عمليتي الهدم و البناء لهياكلها و خارطة الطريق المعتمدة في مبادئها و إيديولوجياتها للحيلولة دون السقوط في أزمة الشرعية الداعمة لاستمرار الأحزاب السياسية في ممارسة أدوارها.

فالتحول الديمقراطي الذي تشهده كثير من دول المعمور يفرض على الأحزاب السياسية تطوير وظائفها بحيث تصبح أداة فعالة لممارسة ديمقراطية حقيقية و في إيجاد نظام للحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية يضمن للجماهير العيش الكريم .

فلا أحد يماري في أهمية الأحزاب السياسية ; كظاهرة ترتبط بالنظم السياسية الحديثة, بغض النظر

عن أحكام القيمة الصادرة في حق كل حزب من الأحزاب سواء أكانت ليبرالية أم سلطوية أم شمولية…

لكن السؤال الذي ينطرح كلما تحدثنا عن هذه الأخيرة يتمثل في ركام الاتهامات التي توجه إليها  .

ألا تؤدي الأحزاب السياسية إلى الفساد ؟ ألا تعمل على تقسيم المجتمع إلى أطياف و فرق كل واحدة تدافع عن مصالحها و مكانتها المجتمعية بمنأى عن المصالح العامة؟ ألا تكون سببا في ضعف اللحمة المجتمعية و الضعف السياسي مما يسهل اختراق الوطن من طرف القوى الأجنبية المتربصة؟

هل تعمل فعلا على تحقيق العيش الكريم مع توفير العدالة الاجتماعية و ضمان حقوق الإنسان أم صارت مناصبها مجرد إهدار للإمكانيات المادية و المعنوية,  و وسيلة لإنتاج الخروقات الجسام في حق

الإنسان كما يحصل هنا و الآن  في  كثير من البلدان؟



المراجع

الأحزاب السياسية في العالم الثالث سلسلة عالم المعرفة عدد 117 – د.أسامة الغزالي حرب 1 ’ 6

نص قانون الاحزاب السياسية بالمغرب – أكتوبر 2005 المصدر إسلام اونلاين 2 ’ 4 ’ 5

د سعاد الشرقاوي  ”الأحزاب السياسية”- يوتيو 2005 . 3

—————————————————————–

المؤسسة الإعلامية و دورها في التنمية الإجتماعية للطفولة و الشباب

نموذج القنوات الفضائية


توطئة

تنبع أهمية وسائل الإعلام من كونها الأداة الرئيسة في عملية التواصل الجماهيري التي توسعت آفاقها ، و تعددت أبعادها، وتشعبت مجالاتها مع ثورة المعلومات والاتصال والتكنولوجيا الحديثة.

الأمر الذي بوأ المؤسسة الإعلامية مكانة مهمة في الاستراتيجيات والسياسات التي تستهدف تحديث المجتمعات وإعادة انبنائها لمواكبة عصر المعلومات والتطورات العالمية في كافة المجالات.. و صارت محركا مركزيا في تشكيل منظومة العلاقات الدولية سواء على المستوى الرسمي بين الحكومات والأنظمة، أو المستوى الحضاري بين الثقافات المختلفة.

و لا شك أنها  أخذت  تلعب  دورا  بارزا في عملية  التنشئة الاجتماعية  في وقتنا  الراهن    .  ومع أهمية دورها التربوي هذا إلا أنها كثيرا ما تبث رسائل مخالفة لتلك التي يتلقاها الأطفال و الشباب داخل أسرهم  فتضطرب المعايير أمام الطفل و المراهق  لتشكل بذلك مصدر تهديد للتنشئة الاجتماعية السوية.

و مرد ذلك البرامج الترفيهية السطحية التي عرفت اهتماماً متزايداً من المشاهدين الشباب والمراهقين, وخصوصاً ما تعكسه بعض الأغاني المصورة والبرامج من صور مبتذلة وهابطة تستند على الإثارة. وهذه الأشكال تستهدف الشباب  وتروم العبث بقيم وعادات وثقافة مجتمعاتهم .

فما المقصود بالمؤسسة الإعلامية أو الإعلام؟ و كيف تساهم في التنشئة الإجتماعية للطفولة و الشباب؟ و ما تعريف هذه الأخيرة قبلا؟

أ يضطلع فعلا الإعلام بالدور المنوط به من قبيل تميزه بعكس الثقافة الرشيدة و التوجه الحسن للمجتمع؟ أم يظل أداة لطمس هويته؟

ما هي خصوصيات المشهد الإعلامي المغربي؟ هل يعيش أزمة التوجيه  و الإبداع و الفعالية و التواصل اتجاه الأطفال و الشباب ؟

ما الإعلام الذي نتطلع إليه؟ و كيف السبيل إلى تطوير الخطاب الإعلامي وآلياته ووسائله بما يساعد في الحفاظ على الهوية الثقافية والحضارية للمجتمع؟

.2تحديد المفاهيم

الإعلام

يعرف الدكتور احمد زهران الإعلام قائلا:

” هوعملية نشر وتقديم المعلومات الصحيحة والحقائق الواضحة، والأخبار الصادقة والموضوعات الدقيقة والوقائع المحددة، والأفكار المنطقية والآراء الراجحة للجماهير، مع ذكر مصادرها خدمة  للصالح العام. ويقوم على مخاطبة عقول الجماهير وعواطفهم السامية وعلى المناقشة والحوار والإقناع بأمانة وموضوعية”1

و غني عن البيان أن الإعلام تتعدد وسائله و يمكن أن نجمل أهمها فيما يلي:

~ و سائل الإعلام السمعية كالإذاعة

~ و سائل الإعلام البصرية كالصحافة و الكتب…

~ و سائل الإعلام السمعية البصرية, و هي لب موضوعنا , كالتلفزيون و القنوات الفضائية…

التنشئة الإجتماعية

عملية التنشئة الإجتماعية عملية يهتم بدراستها علم النفس الإجتماعي و علم نفس النمو, و علم الإجتماع و علم التربية . و يعتبرها بعض رواد علم النفس الإجتماعي محور المادة الدراسية لهذا العلم .

كما لا يخفى على أحد أن الإعلام و بالأخص وسائله السمعية البصرية – القنوات الفضائية- يساهم بدوره في التنشئة الاجتماعية للطفولة و الشباب خاصة و أن هذه الوسيلة غزت كل المنازل.

حتى أصبح – التلفزيون- يوصف  بالضيف المفروض على كل الناس.

فما المقصود بالتنشئة الإجتماعية؟

يعرف الدكتور حامد زهران التنشئة الإجتماعية بكونها:” عملية تعلم و تعليم و تربية, و تقوم على التفاعل الإجتماعي, و تهدف إلى اكتساب الفرد * طفلا , فمراهقا , فراشدا , فشيخا * سلوكا و معايير و اتجاهات مناسبة لأدوار اجتماعية معينة , تمكنه من مسايرة جماعته و التوافق الإجتماعي معها, و تكسبه الطابع الإجتماعي , و تيسر له الإندماج في الحياة الإجتماعية”2

و يعرفها شريف و شريف Sherif 1956 Sherif & قائلا:” هي عملية تحويل الكائن الحيوي  (البيولوجي) إلى كائن اجتماعي , ذلك الكائن الذي مكث في رحم الأم ينمو حيويا إلى قدر معلوم و خرج منه لا يعلم شيئا ليتلقفه ( رحم الجماعة) ينمو فيه اجتماعيا”3

فالتنشئة الاجتماعية عملية تهدف إلى دمج الفرد مع الجماعة وتكييفه مع أنماط وسلوك وأعراف وتقاليد المجتمع بشكل تدريجي وتسلسلي.

.3دور الإعلام في التنشئة الإجتماعية

تلعب المؤسسة الإعلامية المتمثلة في القنوات الفضائية دورا هاما في عملية التنشئة الإجتماعية للفرد سواء كان طفلا أو شابا أو راشدا . و تسهم وسائل الإعلام في الوحدة الثقافية و الإجتماعية , و التقريب بين فئات المجتمع , كما تسهم في عملية  النقل الثقافي بين الأجيال.

فالإعلام الناجح يروم إشباع الحاجات الإجتماعية و النفسية للأفراد تلبية لرغباتهم و تحقيقا لفائدة ملموسة في حياتهم اليومية , من قبيل الحاجة إلى المعلومات و التسلية و الترفيه و هنا نستحضر دور اللعب بالنسبة للطفل , و الحاجة إلى التزود بأخبار الساعة و انتظارات الشباب  و الرغبة في رفع مستواهم المعرفي و الثقافي, بالإضافة إلى حاجتهم الماسة في دعم الإتجاهات الإجتماعية و النفسية و تعزيز القيم و المعتقدات و التوافق مع المواقف الجديدة.

كل تلك الحاجيات تساهم في إكساب الشاب القدرة على الإندماج و الإنصهار في المجتمع و التأثير و التأثر به بفعالية تجعل منه مواطنا متزنا غير منطو أو انعزالي مما يسبب لديه العزوف عن المجتمع و الدخول في دوامة الفشل.

فمن أدوار المؤسسة الإعلامية الدور التثقيفي التربوي و التعليمي لعموم المشاهدين.

“صحيح أنه ليس من وظيفة القنوات أن تعلم أو تثقف. إنها تقدم الأخبار وتنشر المعطيات. وصحيح أن وظيفة التثقيف هي من صلاحية المدرسة والجامعة والخزانة والكتاب, إلا أنها   مقصرة في دورها, ولا تستطيع أن تلعب الحد الأدنى من ذات الدور, لأسباب يطول الحديث فيها هنا, لعل أصلها تعذر تأصيل منظومة القراءة كأداة تنمية وتطور وتغيير”.4

إلا أن من بين و ظائفها تنمية المعارف و سلوكات التفاهم و الإقتناع و تنمية الفكر الناقد. كما و يستطيع الإعلام أن يكون عونا جيدا للمعلم و التلميذ كليهما في جميع العمليات التعليمية التعلمية , مانحا فرصة للتلميذ و الطالب لتكميل النقص الحاصل لديهما و لإثراء الرصيد المعرفي و السلوكي بما يمكنهم من تبوأ مكانة المواطن الصالح .

لقد درجت كثير من القنوات الإعلامية على تقديم البرامج التعليمية و التربوية بشكل عام DISCOVERY- -

الأمريكية مثلا- الشيئ الذي ساهم في التطور التعليمي خصوصا بعدما أدخلت المعينات الديداكتيكية العصرية من أجهزة إلكترونية و حواسيب و مؤثرات سمعية بصرية, الشيء الذي فسح المجال للتعلم الذاتي.

فالإعلام عامل أساسي في القضاء على الأمية , كما و يسهم في اكمال ثقافة الذين انقطعوا عن التمدرس في سن مبكرة لظروف ما. و يعد بذلك مؤسسة تربوية مكملة لدور المدرسة.

.4مقاربة المشهد الإعلامي المغربي

إحصائيات و أرقام

انطباعات و قراءات

من المعلوم أن الطفولة و الشباب يعدان  قلب المجتمع  النابض بالحياة ، وأملها المعول عليه لتحقيق التقدم والنمو ، وللخروج من ربقة التخلف والهزيمة ، وهو الذي تعقد عليه  الآمال للمنافحة عن وطنه و منافسة  باقي الأمم في مراق  المجد والرقي ،  الأكيد أن مأساة المجتمع  ستكون جسيمة جدا عندما يساء التعامل و هذه الشريحة الاجتماعية ، وتصبح عرضة لكافة أشكال الامتهان والانتهاك والتشويه والهدر والحرمان …

و في خضم التغيرات والمستجدات التي عرفها و يعرفها الإعلام  الذي أضحى أحد أقوى

الوسائل أثراً وأكثرها فاعلية في تشكيل التوجهات، وتوجيه السلوكات ، والتأثير على البنية و الرساميل الثقافية للأفراد .

يطرح سؤال مدى مواكبة و ملاءمة  الإعلام  المغربي و التحولات المهمة التي عرفتها السا حة السياسية بالمغرب من جهة و ما تعرفه الساحة الدولية و المشهد الإعلامي العالمي من جهة تانية؟ ومدى تأثيره على المجتمع المغربي ومساهمته في التنشئة الاجتماعية؟

وكذا التساؤل عن ماهية وطبيعة التحديات والاكراهات التي تواجه هذه المؤسسة الإعلامية؟

ولاشك أن أول ما يتبادر إلى  ذهن القارئ و التمصفح  للمشهد الإعلامي بالمغرب هو مدى ارتباط السياسي بالإعلامي. ومن ثم يكون الإعلام بصفة عامة خاضعا للجهاز التابع له وتلك التبعية تكون في عمقها مؤطرة بفكر معين وبخط لايخلو من إيديولوجيات معينة.

يقول الدكتور يحيى اليحياوي في إحدى محاضراته بالرباط 2 نونبر2009 “  إن مسألة التواصل العمومي بالمغرب عصية على الاستنبات, ليس فقط باستمرار سيادة ثقافة السرية والتعتيم, ولكن أيضا بسبب التردد في استصدار قانون يضمن الحق في المعلومات, ومن خلاله وعبره الحق في الإعلام والاتصال. “6

ففي وقت يطمح فيه المجتمع المغربي إلى النموذج الإعلامي، الذي يضع حدا لاحتكار الدولة وينظم دخول الخواص واستثماراتهم و يتعاطى مع الوقائع بشكل مستقل و حيادي ، و بنوع من المهنية، نجد أن السلوك السياسي الرسمي يخلق فجوة بين ما يتطلع إليه المجتمع، و بين الشعارات المرفوعة.

وبداية لا بد من استعراض اهم مميزات المشهد الإعلامي المغربي في علاقته مع التنشئة الإجتماعية و هي قطب رحى موضوعنا, عبر قنوات  الرأي العام و المواطنة التائهة و المغيبة بين ثناياه و الثقافة المنسية.

بخصوص التنشئة الإجتماعية ودور المؤسسة الإعلامية  صلب موضوعنا أجدني أتساءل عن كمية و كيفية البرامج التي تعنى بطبيعة الحال بهذا الموضوع ” التنشئة الإجتماعية” و أقصد بها البرامج التربوية و الثقافية و التعليمية و حتى الترفيهية التي تروم إكساب الناشئة ” أطفالا أو شبابا ”  زادا معرفيا يمكنهم من الترقي التقافي و يكسبهم في ذات الوقت السلوك الإجتماعي السوي عبر استدخال تقافة المجتمع في بناء شخصيتهم.

فحين يفتح إعلامنا أبوابه المترعة  لكل الوجوه ولكل اللغات ولكل اللهجات , و لكل نفايات الآخر…

كان الأمر في البداية مقتصرا على المسلسلات المكسيكية المدبلجة باللغة العربية الفصحى ، وأصبحنا نستقبل الدراما التركية ، والهندية ، والكورية … وإمعانا في ضمان تواصل أكبر مع ربات البيوت الأميات القابعات في بيوتهن ، تمت الدبلجة باللهجة العامية المغربية .

الشيء الذي أفرز واقعا يتحدث عن ارتفاع نسبة العزوف عن الزواج في مقابل الحديث عن أعداد مهولة من الأطفال غير الشرعيين.

و  في جانب آخر  كلما اقتربت مواعيد الامتحانات يحلو للقناة الثانية  أن  تحتفل بالذكرى السنوية الخاصة ببرنامج اكتشاف المواهب الغنائية الشابة“استوديو 2M ” ،

ويتم الإعداد لهذه الاحتفالات السنوية بوصلات إشهارية في غاية الإثارة والجاذبية ، حيث تمتزج الألوان المثيرة ، بالموسيقى الساحرة ، وتتعانق اللقطات الحالمة ، بالتعليق المتدفق إطراء ومدحا الأمر الذي يمارس على الشباب نوعا من العنف الرمزي .

تتسرب الإغراءات الكاذبة إلى مسامع الشباب المغربي المهدور وعيا وطاقات وانتماء ، وتبدو له أحلام المال والنجومية أقرب إليه من حبل الوريد . الشيء الذي يوحي بأن التخطيط لإفشال التعليم هو الأصل وهو الواقع ، وأن الحديث عن برامج إصلاح التعليم مجرد شعارات براقة خادعة ، فكيف يمكن لهذا الطالب أن يعد للامتحانات بالجدية والصرامة اللازمتين بعدما يتم التلاعب بمشاعره وأحاسيسه ؟

كيف يمكن بعد كل ذلك أن يتفرغ للتحصيل ، وأن يستعد نفسيا لتحمل ما يتطلبه الإعداد للامتحان من جهد ، وتضحية ، وتفرغ ؟ فلا غرابة أن يتدنى مستوى التحصيل ، وترتفع نسبة الهدر المدرسي ، وتشيع  ظاهرة الغش في  الامتحانات ، و العنف والمخدرات والانحلال الخلقي في أوساط المؤسسات المدرسية والجامعية !

وهنا يطرح سؤال المسؤولية الإعلامية!

فالمفروض أن يحرص إعلامنا على توفير الحد الأدنى من شروط الاستقرار الأسري. و أن يسهم في تمتين روابط الاحترام والتواصل البناء بين أفراد الأسر عوض تفكيكها.

لأنه أمام هكذا برامج  تكرس السلوك المنحرف والتمثلات الخاطئة بخصوص المجتمع لدى الأطفال و الشباب الذين يجدون  مفارقة كبيرة بين تمثلاتهم وأحلامهم وانكسارتهم, وبين عالمهم الواقعي الذي يعيشونه , تصبح المؤسسة الإعلامية مدمرة وسلبية بشأن التوجيه البيداغوجي و التربوي الذي يجب أن يسلكه الطفل والمراهق , و يصبح عرضة  السلوك المنحرف , وممارسة العنف في شكله البسيط  خلال مرحلة الطفولة, ليصبح هذا السلوك مرشحا للتطور,و ذلك ما نقرأه على واجهات الصحف بشكل يومي.

ولعل واقع الأسر المغربية  يزيد المشكلة صعوبة  حينما لا تمنع الأسر أبناءها من مشاهدة هذه البرامج  والأفلام  , بل ولا تتدخل في انتقاء البرامج والفضائيات المناسبة, هنا تخلق الشخصية الإنفصامية لدى الطفل و الشاب بين ما يشاهده و ما يعيشه مما يؤدي إلى بروز الخلل و التناقض في السلوكات و التوجهات فأين هي المناعة التي أعدها إعلامنا ؟ فالأمر عندنا يتعلق بتلفزة سلطة تفكر نيابة عنا جميعا و تتكلم لغة لا نفهمها و لا نتكلمها.

في إشارة واضحة مفادها أن الإعلام المغربي لا يعكس انتظارات الراي العام , و الدليل على ذلك انتفاء مراكز بحث و استقصاء و قنوات تواصل.فكيف السبيل إلى إدراك انتظارات المجتمع دون قناة تواصلية.

فإعلامنا لا يدبر برامجه وفق التزاماته اتجاه الرأي العام , بل يتصرف من باب الوصاية مما يدلل أنه لم يعرف أي تغيير منذ زمن بعيد في سياسة تعامله مع آهات و زفرات المقهورين اجتماعيا.

وبالحديث عن  البرامج الدينية شبه المغيبة بالقناتين العموميتين, الرافعتين للواء المرفق العمومي  “وما قدم على أساس كونه برنامجا دعويا, لم يتجاوز الخطب المكرورة, المتضمنة لرسائل الوعظ والإرشاد, الفوقية المنحى, العمودية التوجه, الأبوية الصفة, العديمة التفاعلية, تخاطب المتلقي كما لو أنه حديث العهد بالإسلام, لا يفقه من شؤون دينه شيئا”6

إن رتابة البرامج الدعوية و طبيعتها في مقاربة المواضيع الدينية  دفعت بالعديد من المغاربة للانتقال

إلى فضائيات عربية, لتتبع برامج  أعدها دعاة أكفاء بأسلوب جذاب و مشوق يتماشى و العصر و ليس ما يبعث على الإحساس على حد تعبير الدكتور بالغمة أو الضيم.

فالبرامج الثقافية التي يعول عليها في تشكيل شخصية الأطفال و الشباب و إكسابهم عادات و تقاليد و قيم و اتجاهات تمكنهم من الإندماج اجتماعيا و هم راشدون .

نجد أن القناة الثانية لا تتوفر على برنامج ثقافي صرف , و أنا أستغرب من تمثل هذه القناة؟

هذه القناة التي ” تأسست على يد مجموعة من الأشخاص الذين يبحثون عن التواصل مع أقلية مغربية , بما أن ثلاثة أرباع برامجها تذاع باللغة الفرنسية , و هو استفزاز ثقافي ضد الشعب المغربي”8

و  هنا يطرح سؤال المواطنة, فنحن لا نتوفر على تلفزة تحترم مواطنتها وانتماءها الوطني, فهي تكرس  ثقافةالرأي الواحد و الإقصاء والعنف الرمزي, إنها تلفزة بلا ملامح وطنية, ولا أدل على ذلك من سيطرة لغة أجنبية عليها.

و يضيف البروفيسور المهدي المنجرة منتقدا عدم ملاءمة هذه القناة لوضع المغرب الإجتماعي و الثقافي قائلا” أنها تبث برامج من درجة ثالثة تطعن بشكل صريح أو ضمني في ثقافتنا و تمرر على مدار اليوم خطابات لا تعنينا في شيء .”9

فالبرنامج الثقافي الوحيد الذي أطلق بالتلفزة المغربية منذ أربع سنوات هو برنامج ” مشارف” الذي يحاول من خلاله مقدمه ردم الهوة الثقافية على حسب تعبيره بين مثقفي الشرق و الغرب.

لكن ذات البرنامج يتلقى انتقادات سافرة من جهات لا تعنيها التنمية الثقافية لشباب اليلد في شيء.

هذه الأخيرة هي “آخر المفكر فيه”, فالحقل التلفزي المغربي لا يمثل نقطة جذب للوجوه الثقافية, كونه يعيش على خلاف دائم مع الهم الثقافي, فلا ينهجس برفع المستوى الثقافي للمشاهدين.

ورغم تعدد مشاريع “الإصلاح” كإحداث الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري في المغرب المغرب بموجب الظهير الشريف رقم 212 – 02-1 والذي صدر في 31 غشت 2002

فلم تنبثق قواعد عمل جديدة. في اتجاه آخرلا يمكن إنكارمحاولة  القناتين الأولى والثانية إثارتهما

للمسالة الثقافية أو للقضية التربوية أو للقضايا السياسية والاجتماعية أو لغيرها. إلا انها ظلت موضع معالجة سطحية غير دقيقة ولا مستوفاة إلا في القليل النادر منها.

ان المشاهد المغربي  لم تعد لديه الثقة في مصداقية وسائل إعلامه المحلية لذلك تجده

يعتمد في كثير من الأحيان على وسائل الإعلام الأجنبية لاستقاء المعلومات وتتبع الأخبار والأحداث. وسلوكه هذا يعرض كثيرا من رساميله الدينية و الوطنية للخطر.

خصوصا و أن كثيرة هي القنوات الفضائية, التي  لا تراعي إلا الربح والتجارة, وفق ما تمليه  سياسة الحداثة والليبرالية المتوحشة,تبث سمومها التي تشوه سلوكات النشء، فهناك برامج بلا هدف واخرى تهدف الى الافساد ومخاطبة الغرائز والمخاطبة بلغة رخيصة جداً، تتغيا زعزعة المبادئ والقيم . الأمر الذي يؤثر في التربية و ثقافة الأفراد.

ويكفي أن نشير إلى أنك تجد فضائية إخبارية أو علمية مقابلها عشرين أو ثلاثين فضائية غنائية، إقبال هائل، فحسب الإحصائيات تجد مثلا بالنايل سات أكثر من 25% تقريبا من القنوات هي قنوات غناء ورقص مقارنة بـ5% على الهوت بيرد، يعني تصور أنه في العالم العربي عددها أكثر بكثير من العالم الغربي الذي نتهمه بالهبوط والسقوط الأخلاقي وإلى ما هنالك.

هذه القنوات ذات المضامين الترفيهية السطحية التي لاقت رواجاً كبيرا واهتماماً متزايداً من المشاهدين ، وبصفة خاصة الشباب والمراهقين وخصوصاً ما تعكسه بعض الأغاني المصورة والبرامج من صور مبتذلة وخليعة تنيني على الإثارة .

كما و أثبتت الأبحاث و الدراسات  في مجال علم نفس النمو بأن الأطفال و الشباب الذين يشاهدون أفلام الرعب والعنف والجريمة يصبح سلوكهم عدوانيا و تصبح ممارسته ضربا من ضروب تحقيق الذات و الإحساس بالرضى لاسيما وأن القنوات الفضائية السلبية منها كثيرا ما تظهر الشخص المنحل اخلاقيا و الفتاة الفاسدة القيم بمظهر القدوة التي يجب أن يحتدى به. وفي ذلك اغراء للمراهقين والمراهقات على التمرد على الاسر و دفعهم إلى تحطيم القواعد الاخلاقية.

الشيء الذي يتمثله الأطفال و الشباب صحيحا فيعكفون على ترسيخه بمداركهم , و عند أول صد لهم من طرف الكبار على سلوكهم ينشأ الصراع.

فتقود العولمة الثقافية والتغيرات الاجتماعية الكامنة في القنوات الفضائية الشباب إلى التناقض بين ما يعرفه عن ماضيه وما يشاهده في حاضره فيشعر بالدونية أمام الثقافة العالمية ، مما يخلق الشخصية المتناقضة ثقافيا وقيميا، وربما قاده ذلك إلى الانحراف والإجرام والمعاناة من المشكلات الاجتماعية والنفسية المتواصلة.

أمام هذا الإختراق الخطير لشريحة الشباب من لدن القنوات الفضائية, ومن لدن طبيعة العولمة المراد لها التكريس ما يفضي حتما إلى حالات من الانبهار, المحيلة على الاغتراب الاجتماعي بحكم محاولة الانصهار بالنموذج الغربي .

هذا المارد الذي يروم خلق مناخ ثقافي واحد , تنتقل فيه كل الرساميل و الرموز و المعارف و المنظومات لتمحو بذلك الإختلاف و الخصوصية الفكرية و الثقافية , مما يستدعي ان تهب المؤسسة الإعلامية للدفاع عن رساميلها البشرية .

و من ثمة تبرز أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسة الإعلامية في عملية البناء الثقافي والاجتماعي ، وذلك من خلال تطوير البرامج التثقيفية و التنويرية ، وفقاً لسياسة اجتماعية متكاملة تتخذ أساليب ووسائل هادفة .

لقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك مدى قوة هذه المؤسسة في التأثير الواضح على أفكار واتجاهات وسلوك الأطفال و الشباب، إذا استخدمت استخداما رشيداً و حكيما.. إذ لا يقتصر دور هذه الوسائل على مجرد عرض الآراء والأفكاربشكل سطحي متجاوز بل يتعداه إلى التأثير في الاتجاهات بتدعيمها أو تقويمها و تصحيح اعوجاجها. و بالتالي فهي تسهم في إعادة بناء الأفراد بما يمكنهم من التصدي لمسئوليات عصرهم، وبلوغ مستوى  الطموح و الآمال.

5 خاتمة

من الجدير بالذكر ان العصر الحالي احتل فيه التلفزيون و القنوات الفضائية بالخصوص مساحة كبيرة في اذهان المشاهدين واهتماماتهم،غير أن  هذه الأخيرة  سلاح دو حدين. فإذا ما راعت التواصل مع شريحة الأطفال و الشباب » التي تمر بطور التكوين و بالتالي فهي تخضع بدرجة اكبر لتأثير الرسالة الإعلامية التي تعمل علي تكوين عقولهم وإتجاهاتهم وقيمهم «  من خلال العناية بالبرامج الموجهة لهم في وسائل الإعلام المختلفة وتكثيف محتوياتها وتنويعها انعكس ذلك إيجابا على مستوى تنشئتهم الإجتماعية , و إذا ما أهملت ذلك الدورو آثرت الميل الى الربح والإكتساح و اعتمدت مقاربة نسب المشاهدات   دون تمييز للجيد و الرديء فتلك مجازفة بمستقبل الناشئة , أما إذا كانت تروم الإفساد العلني و الفاضح للقيم الإنسانية و التوابث الوطنية فنحن بلا شك سنكون أمام جيل لديه تصورات و اتجاهات تحاكي الأسلوب

الغربي تستهدفه وتحاول طمس هويته والعبث بقيم وعادات وتقاليد وثقافة مجتمعه العربي والإسلامي.

وما لم تتخذ الاحتياطات اللازمة لتطوير البرامج الإعلامية في مجتمعاتنا لمواجهة المشاكل المحلية ومواجهة مشاكل الحداثة ذاتها من خلال البرامج الإعلامية التثقيفية والمعرفية  القائمة على أسس علمية، فإن الهوة قد تتسع بين المواطن المغربي ومؤسسات التنشئة الاجتماعية الأسرة , المدرسة.. من جهة,

و بينه و بين إخوانه بباقي الدول العربية و الإسلامية و هذا ما تأمله الحداثة و العولمة الجارفة لباقي الثقافات.

غير أن المحافظة على الهوية والثقافة المغربية لا تعني الانطواء على الذات وإنما تعني التفاعل مع الثقافات الأخرى وأخذ ما يفيد هويتنا وثقافتنا ويدعمها في إطار التفاعل بين الثقافات والحضارات المختلفة.
إن الاعتراف بالآخر والتحاور معه ضرورة تفرضها التغيرات العالمية المتسارعة فلابد من التكامل والتفاعل بين الشعوب والثقافات ولكن لا بد من التشبت  بهويتنا وحضاراتنا وتراثنا وقيمنا.

و هنا نستحضر قولة المهاتما غاندي ” أريد أن تهب كل ثقافات الأرض قرب منزلي , بكل حرية إن

أمكن ذلك , لكني أرفض أن أنقلب من جراء رياحها العاتية”

فبالرغم من محاولات الإصلاح المتكررة للقنوات التلفزية الوطنية, هذه تغير مدير القناة و بعض أطره, و تلك تصدر قانونا, تظل ثمة أسئلة حارقة من قبيل هل تكفي تلك الإصلاحات لخلق ممارسة ﺇعلامية ذات مصداقية، تتماشى و ما ينتظره المجتمع المغربي، الذي يغط في جوف الحداثة اﻹعلامية، و له من الاختيارات و الإمكانات ما يمكنه من عقد مقارنة بين الأمس و اليوم بين الجيد و الرديء؟

كيف نحافظ على بناء عقل أطفالنا و شبابنا أمام هذا الانفجار الفضائي بما يحمي ثقافته وهويته؟

الهوامش

.1د.حامد زهران، علم النفس الاجتماعي، القاهره1970

.2د.حامد زهران، علم النفس الاجتماعي، القاهره1970

.3د.حامد زهران، علم النفس الاجتماعي، القاهره1970

.4يحيى اليحياوي الرباط, 1 فبراير 2010

2008  في الغمة التلفزية بالمغرب . يحيى اليحياوي.5

في معوقات التواصل العمومي بالمغرب. يحيى اليحياوي.6

.7″ محنة التلفزة بالمغرب ” يحيى اليحياوي.  منشورات عكاظ – الرباط -  دجنبر  1999

.8د المهدي المنجرة. قيمة القيم. ص.217

.9د المهدي المنجرة. قيمة القيم. ص.65

_________________________________